القدس.. عندما يحتكر الإسلام السياسي الخطاب النضالي والأخلاقي

القدس.. عندما يحتكر الإسلام السياسي الخطاب النضالي والأخلاقي


11/12/2017

لم يلبث العالم العربي في تأمله مشكلاته وانقساماته الداخلية السياسية والإيديولوجية طويلاً حتى جاء قرار ترامب المتهور ليزيد المنطقة اشتعالاً، بقرار يعيد القضية الفلسطينية من طاولات الحوار إلى الجدل الإعلامي والهتافية السياسية، ليلتفت الجميع إلى الخيارات التي يملكونها ليجدوها صفراً كبيراً، وما زاد الأمر تعقيداً هو توظيف قضية العرب الأولى وإعلان القدس عاصمة لفلسطين المحتلة في الصراعات الإيديولوجية والسياسية التي تضرب المنطقة العربية، مع تعالي النبرات الحادة من حركات الإسلام السياسي التي تطعن في مواقف الآخرين المخالفين، مع الإصرار على دينية القضية الفلسطينية التي يدافع عنها كل شرفاء العالم بأديانهم المختلفة وتوجهاتهم المتباينة.

على الإسلاميين تقبّل أنّ القضية الفلسطينية إنسانية بالمقام الأول، والابتعاد عن توظيفها لأجل المصالح الضيقة

إنّ الموقف من القدس هو موقف الأحرار تجاه الاستبداد واغتصاب حق الآخرين الجغرافي والثقافي، وهو موقف جمع كثيرين -بمرجعيات متباينة- على المستوى الأخلاقي والإنساني، فبأي حق تحتكر المرجعيات الدينية لنفسها هذا الخطاب دون غيرها! فهنالك مناضلون كثر لم تكن لديهم توجهات يمينية لكنهم دفعوا ثمن مواقفهم الإنسانية والأخلاقية تجاه هذه القضية، بينهم سياسيون وشعراء وروائيون وناقدون، فليس هناك اليوم ما يبرر هذه المزايدات إلا سطوة الإيديولوجيا والرغبة العارمة في توظيف القضية لأجل إقصاء الآخرين، ولعمري هذا يزيد الاحتلال قوة ومناعة كونه يعول كثيراً على الصراعات الداخلية وضيق الأفق في المواجهة مع هذا الكيان المحتل؛ فهي ببساطة قضية إنسانية في المقام الأول.

لقد كان إدوارد سعيد، المفكر الذي أزعج الدوائر الصهيونية والإمبريالية، علمانياً مسيحياً وما قدمه من نقد للاستشراق ونزعات الهيمنة الغربية وأنويتها عملاً جباراً في النضال بالقلم والفكرة، كونه يدافع عن حق الشعوب العربية وغير الأوروبية بالتحديد في أن تكون مستقلة وذات وجود يحقق لها كينونتها، وكان دافعه في ذلك كله إنسانياً وأخلاقياً لا اختزالياً كما يفعل من يصادرون القضية الفلسطينية لصالح الإيديولوجيات والمشاريع الضيقة. وكذلك رأينا مواقف ونضالات غسان كنفاني الذي كان يميل إلى الماركسية فقد دفع هو وابنته الصغيرة ثمن نضاله السياسي الذي مارسه من خلال الصحافة والأدب .

حق فلسطين تاريخي، فإذا كان الغرب يدفع ثمن عنصريته التاريخية تجاه اليهود فنحن لسنا معنيين بهذه العنصرية

على الإسلاميين تقبّل أنّ القضية الفلسطينية قضية إنسانية بالمقام الأول، والابتعاد عن توظيفها في تصفية الحسابات الآنية لأجل المصالح الضيقة، والحرص على تنقيتها من نزعات العنصرية المضادة، وهذا الأمر واضح في المرجعية القرآنية "لا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلو اعدلوا هو أقرب للتقوى"، فمن العدل النظر إلى القضية من زاوية الحقوق الأساسية والتي يستعان بالقيم الدينية داعماً لها لا خصما عليها.

لقد ضرب ترامب على وتر حساس يمسّ عصب الوجدان الإنساني والديني معاً، فلا يجب أن نستجيب إلى الاستفزاز الذي صدر عنه؛ لأن حق فلسطين حق تاريخي ومعلوم لدى الجميع، فإذا كان الغرب يدفع ثمن عنصريته التاريخية تجاه اليهود فنحن لسنا معنيين بهذه العنصرية ولسنا جزءاً منها؛ فالتعايش الديني سمة أساسية في المنطقة منذ زمن بعيد، حتى تلك الحروب التي حملت في الفكر العربي الحديث اسم  "الصليبية" كانت في مجملها سياسية قادتها إمبراطوريات توسعية بينما بقيت المجتمعات كما هي متجاورة ومتسامحة فيما بينها، بدليل أن كل كتب التراث كانت تسميها "حروب الفرنجة".

إننا أمام ظاهرة توازي ظاهرة احتكار الخطاب الديني وتأويله وفهمه وهي ظاهرة احتكار الخطاب النضالي والأخلاقي وهذا ضعف بنيوي في خطاب حركات الإسلام السياسي في المنطقة؛ إذ لايستوعب إطار أوسع من إطاره الخاص ورؤيته الأحادية المغلقة لأمور نسبية ومتعددة الجوانب، والتي من بينها مسألة النضال والمقاومة؛ بل أزعم أن نضال الكلمة والفكرة باق أكثر من انتصار السلاح؛ لأنه يعزز الثقة بالذات، ويسحب البساط الذي يتكئ عليه الآخر المحتل.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية