الملحدون في مصر: هل هم مجرمون؟

مصر

الملحدون في مصر: هل هم مجرمون؟


16/01/2018

صمد المفكر المصري، صاحب "التفكير في زمن التكفير"، نصر حامد أبو زيد، أمام الفخ الذي وضعته فيه جماعات أو هيئات، حين رفض أن ينطق الشهادتين، داخل قاعة المحكمة، ولم يستجب للقاضي الذي فوّض نفسه حكماً، لإثبات صحّة إيمان المفكّر وعقيدته. في المقابل؛ لم يتورع أبو زيد، بعد المحاكمة التي أدّت إلى تكفيره، ببدء إحدى محاضراته بترديد الشهادتين، في رسالةٍ بليغةٍ، قصد منها رفض أيّة سلطةٍ، غير طوعيةٍ، على ضميره وعقله.

 المفكر المصري صاحب "التفكير في زمن التكفير" نصر حامد أبو زيد

شاهد على الردة التاريخية

حالة الفكر المتردية تلك، ووحشية الواقع الذي يتحكم فيه الإكراه والفوضى والبطش، ثمة فاصل زمني يفصلها عن لحظة أخرى مفارقة، حدثت في ثلاثينيات القرن الماضي، وكانت أكثر جرأة وتسامحاً، في الوقت نفسه، عندما جهر المفكر المصري، إسماعيل أدهم، بموقفه الديني الصريح، الذي خرج فيه على كلّ ثوابته؛ إذ أعلن في مقالٍ له عنوانه: "لماذا أنا ملحد؟"، دوافع خروجه من بوابة الدين بمسلّماته، إلى العلم بقلقه وتردّده وشكوكه، واستغنائه عن المقولات الأبدية والمرجعيات الشمولية، في سبيل قناعاته بالتطور والنسبية؛ حيث قال فيه: إنّ "الإلحاد هو الإيمان بأنّ سبب الكون يتضمّنه الكون في ذاته، وإنّ ثمّة لا شيء وراء هذا العالم".

اقتصر السجال مع إسماعيل أدهم على آليات النقد، دون تشنيعٍ وهجومٍ، ولم يمثل للمحاكمة لأنّ قضيته، لا يمكن أن تتعلق ببنود القانون، أو تعالجها الإجراءات العقابية، من خلال تشريعات تؤول به إلى السجن، حتى عندما هاجمه أحد الشيوخ السلفيين، يوسف الدجوي، محاولاً تأليب السلطة السياسية عليه، لكنّ صوته بقي منبوذاً وانتهازياً، لا قيمة له، وقد تصدّى له المفكر أحمد زكي أبو شادي، ووصف موقفه بأنّه "فقد أدب الكتابة والنقد، وأنّه يسيء للإسلام نفسه".

تشريع قانون يعاقب أفراداً في المجتمع، نتيجة قناعاتهم الدينية، قد يُشكل بيئة حاضنة للتطرف والتشنجات الطائفية

في مستهل مقال للكاتب محمد فريد وجدي، في مجلة الأزهر، كتبه للردّ على الأفكار الواردة في مقال إسماعيل أدهم، ووضع له عنوان: "لماذا هو ملحد؟"، قال فيه: "ونحن الآن في مصر، وفي بحبوحة الحكم الدستوري، نسلك من عالم الكتاب والتفكير هذا المنهاج نفسه، ولا نضيق به ذرعاً"، وقد شرع في مقاله مفنّداً أفكاره، التي نشرها، في مجلة "الإمام" خلال ثلاثينيات القرن العشرين.

تقودنا تلك الإحالات التاريخية وسياقاتها، إلى بناء صورة حول طبيعة التحولات التي طاولت المجتمع المصري، والمواقع المتباينة التي تستقر فيها حالة الفكر بين المرونة والجمود، خاصة، مع تجدد ذلك الجدل، الذي يخوضه البرلمان المصري، ويتحرى مشروع قانون بصدد "تجريم الإلحاد" وفرض عقوبات عليه.

الإلحاد.. فكر أم جريمة؟

قبل أيام قليلة، أعلن أمين اللجنة الدينية بمجلس النواب المصري، الدكتور عمر حمروش، أنّه­ انتهى من المذكرة الإيضاحية الخاصة بمشروع قانون تجريم الإلحاد في مصر، بهدف مواجهة ما عدّه "ظاهرة" في مصر، تهدّد الأخلاق والتماسك المجتمعي، ومن ثمّ تشريع العقوبات المناسبة.

تولّى أمين اللجنة الدينية بمجلس النواب، مهمّة إعداد مشروع القانون، وصياغة بنوده، بالتعاون مع شيوخ الأزهر والمختصين من القانونيين؛ حيث تتكون من أربع مواد، تتضمن: التعريف بالإلحاد وتوصيفه، وتحديد العقوبات المفروضة، التي وصفها بـ "الرادعة والمشددة"، إضافة إلى إمكانية وقف العقوبة، في حال تراجع "الملحد" عن أفكاره.

ورغم وصف الإلحاد بأنّه "ظاهرة"، بحسب أمين اللجنة الدينية للنواب، لكن لا توجد إحصائية رسمية في مصر تشير إلى عدد الملحدين، بينما أوضح تقرير صادر، في عام 2015، عن محكمة الأسرة المصرية، تنامي دعوات الطلاق، بسبب "تغيير عقيدة الزوج"؛ إذ بلغ عدد القضايا نحو 6500 قضية، خلال عامٍ واحدٍ، كما أصدرت مؤسسة "بورسن مارستلير" دراسةً كشفت فيها عن وصول نسبة الملحدين في مصر، إلى نحو 3% من عدد السكان؛ أي أكثر من مليوني ملحدٍ، وذلك في عام 2013.

 أعلن أمين اللجنة الدينية بمجلس النواب المصري، الدكتور عمر حمروش، انتهاءه من المذكرة الإيضاحية الخاصة بمشروع قانون تجريم الإلحاد في مصر

الربيع العربي وقلق المستقبل

شهدت القاهرة، إبّان "الربيع العربي"، حالة من الانفتاح والسيولة، في المشهد السياسي والفكري، لم تكن مسبوقة، بوجه عام، وراجت العديد من الأفكار والرؤى، وتنوعت الأيديولوجيات والمواقف، في الدين والسياسة، بمختلف تياراتها وانقساماتها؛ فظهرت ردود فعل متباينة، إثر الأحداث العنيفة، وتحولاتها الصعبة، وتتابع الفصول ومآلاتها، في مشهد كان يزدحم بالتفاصيل والتناقضات، وفي ظلّ واقع قائم على التعبئة والاستقطاب والحشد، طفقت داخله أصوات عديدة، حوّلت الفكر إلى مجرد دعاية وأيديولوجيا كفاحية ونضالية.

وقد ساهمت منصّات التواصل الاجتماعي في خلق صورة، ربما لا تماثل الواقع حقيقة، لكنّها تعدّ المتغير الاستثنائي، الذي منح زخماً وشرعية لكثير من الأفكار والأفراد، وكشف هوامش جديدة، برزت فيها المناقشات في عدة قضايا، تقليدية وجدلية، غلبت عليها الجرأة في الطرح، وتجاوز المقولات السائدة، والخروج على الأفكار المحافظة التي درج عليها المجتمع لأعوام، بقيت تلك الآراء والأطروحات فيها، حبيسة الدوائر الخاصة والمغلقة، دون تجاوزها إلى أيّ فضاءٍ مفتوح أو متعدّد.

جزء من جناية حركات الإسلام السياسي على الدين والأمة، هو فقدانها مصداقيتها كحركة دعوية وأخلاقية وامتلاؤها بالخداع

تعارض قانون تجريم الإلحاد مع الدستور المصري، الذي يكفل حرية الاعتقاد ويصونه؛ حيث تنصّ المادة 64 من الباب الثالث، المتعلّقة بالحقوق والحريات والواجبات العامة في الدستور المصري، الصادر عام 2014، على أنّ "حرية الاعتقاد مطلقة، وحرية ممارسة الشعائر الدينية، وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، حقّ يكفله القانون". كما تنصّ المادة 57 على أنّ "للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمسّ".

ولم يكن تعارض القانون مع الدستور المصري مشكلته الوحيدة؛ بل إنّ تشريع قانون يعاقب أفراداً في المجتمع نتيجة قناعاتهم الدينية، وأفكارهم العقائدية الخاصة، سيؤدّي إلى تشكّل بيئة حاضنة للتطرف والتشنجات الطائفية، ستولد فيها القوى الأصولية والسلفية، وتتهيأ في مناخها الذي سيمنحها دوراً تضطلع فيه لحماية الدين، لتستأنف بعدها دورها التخريبي في المجتمع. وسيتجدّد في حالة تكرارية، تعيد إنتاج نفسها طول التاريخ، بصورة ملتبسة وعبثية، يتحكم فيها تنوع التفسيرات والمرجعيات، التي تحكم المؤسسات الدينية وتباين توجهاتها، فيصبح "الملحد" هو من يخرج عن طاعة تلك المرجعيات والتفسيرات التي تنغلق معها دائرة الإيمان.

الانتحار الأخلاقي للإسلاميين وتنامي الإلحاد

"جزء من جناية حركات الإسلام السياسي على الدين والأمة؛ فقدانها مصداقيتها كحركة دعوية وأخلاقية، مليئة بالخداع والنفاق، وعدم الوضوح، الذي انطبع في الصورة الذهنية لدى كثيرين، على أنّه هو الإسلام ذاته؛ لأنّ الناس لا تفصل بين الدين والتديّن"، بتلك الكلمات أجاب الباحث في شؤون حركات الإسلام السياسي، أحمد بان، عن واحدة من الأسباب المؤدية إلى حالات الإلحاد في مصر.

وأضاف: "كانت حالة الانتحار الأخلاقي التي تجسدت في أعقاب خروج الإخوان من الحكم، قد كرّست حالة من القطيعة النفسية مع قطاعات من الشباب والإسلام ذاته، بالشكل الذي دفعهم إلى الإلحاد، بعد أن رأت منهم أنّها تتصرف بانتهازيةٍ شديدةٍ، وتمارس السياسة دون أن تتقيد بالأخلاق وتعاليم الدين، بعكس ما تدّعي في خطابها، وتروّج في أدبياتها".

عرّج بان على أزمة الدولة في مواجهة ظاهرة الإلحاد والإسلام السياسي، على حدٍّ سواء، فمؤسسات التنشئة معطّلة عن أداء دورها، وتعاني حالة تراجعٍ، منذ عقودٍ طويلةٍ، وأدّى ذلك إلى "استباحة العقل والوجدان المصري، وعدم تسليحه بالمهارات التي تؤهله كي يصمد تجاه أيّة أفكار، يصون من خلالها هويته، وطبيعة الشخصية المصرية"، فخلص بنا ذلك إلى "مناخٍ سلفي يحمل عاطفةً دون عقل، تجاه الدين وأعصابه مكشوفه تجاه أي نقد".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية