لوثر وعبده: الإصلاح الديني والسياق التاريخي

لوثر وعبده: الإصلاح الديني والسياق التاريخي


08/11/2017

مختارات حفريات

لوثر وعبده: الإصلاح الديني والسياق التاريخي

 

ربما كانت دعوة الإمام محمد عبده إلى الإصلاح الديني في السياق العربي - الإسلامي، مطلع القرن العشرين، أكثر عمقاً من دعوة مارتن لوثر إلى الإصلاح الديني (الحركة البروتستانتية) في السياق الأوروبي المسيحي مطلع القرن السادس عشر.

لقد سعى المصلح البروتستانتي إلى تحرير المسيحي من سلطة الكنيسة، ومن هيمنة أعمال وكتابات كبار باباواتها وقديسيها، مؤكداً محورية الإنجيل وإتاحة قراءته لكل مسيحي، كفرد حرّ، خصوصاً بعد أن ترجمه من اللاتينية إلى الألمانية. أما الإمام المسلم فقد طمح إلى تجديد رسالة التوحيد ذاتها، إذ رأى في النص القرآني معانيَ ثورية لمفهوم الألوهية، ومغزى الإنسانية، كانت طُمست تحت وطأة تراث الاستبداد والقهر والخرافة، يكفي استدعاؤها لتوفير ممكنات أصيلة للاستنارة، ومن ثم قدم صياغته الرائقة والثورية للعلاقة بين العقل والنص، معطياً الأولوية للعقل، مؤكداً أن النص لا يمكنه أن يتناقض مع العقل، فإذا ما تبدى تناقض كان بالضرورة «ظاهرياً»، يفرض تحكيم العقل فيه، ليس لأن ثمة خطأ في النص ولكن لأن فهمه قد استغلق على الذهن، ومن ثم وجب التأويل وفق قواعد اللغة العربية، حتى لا نقع في آفة التلوين.
وهكذا لا تبدو مركزية العقل استعلاء على النص أو رفضاً له، بل وسيلة فهم يتم من خلالها تجاوز ظاهره إلى باطنه، والولوج إلى قلب الحكمة منه. وكذلك ممكنات للتحرر حيث تستحيل العبودية لله طاقة تحرير «وجودية»، تدعم جهود المسلم في مواجهة السياقات المجتمعية والسياسية التي طالما أمعنت في التسلط على عقله وإرادته بسلطة النص التراثي، التي تقف خلف جل هياكل القهر التي سطرت تاريخنا المديد.

محمد عبده طمح إلى تجديد رسالة التوحيد، إذ رأى في النص القرآني معانيَ ثورية لمفهوم الألوهية ومغزى الإنسانية

وعلى رغم ذلك، أثمرت دعوة المصلح البروتستانتي، على يدي من جاؤوا بعده، وبفضل السياق التاريخي الديناميكي الذي انضوت فيه حركته، فسرعان ما أنتج حلمه الأول والبسيط في قهر البابوية دولاً قومية وولّد علمانية سياسية، في ذلك الاتجاه الذي سار فيه جون لوك، نازعاً عن السلطة السياسية قدسية الحق الإلهي، مجذراً لها في مفهوم العقد الاجتماعي بين بشر متكافئين، بدافع مصلحي هو الخروج من حالة الطبيعة الهمجية إلى أفق مجتمع متمدين، يلتصق أعضاؤه معاً بصمغ الإرادة الحرة، التي يحرسها القانون العادل بدلاً من صمغ القوة العارية التي يمارسها بشر همجيون.


وفي المقابل، انتكست دعوة الإمام المسلم، بفعل الجمود المهيمن على السياق التاريخي العربي، حيث تم تأويل الرجل في اتجاهين متناقضين. الاتجاه الأول اقترب من مفهوم الحرية السياسية عبر نفي مقولات الخلافة الدينية، وهو الذي ارتاده الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الأساسي «الإسلام وأصول الحكم» محاولاً تعزيز عقلانية الإمام النظرية بعقلانية عملية، قاربت مفهوم العلمانية السياسية، تأسيساً للسلطة على قاعدة الإرادة الاجتماعية، على نحو ينزع منها ادعاءات القداسة، فيقول حاسماً: «لم نجد في ما مرّ بنا من مباحث العلماء الذين زعموا أن إقامة الإمام فرض من حاول أن يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم، ولعمري لو كان في الكتاب دليل واحد لما تردد العلماء في التنويه والإشادة به». ويضيف جازماً: «ليس القرآن وحده هو الذي أهمل تلك الخلافة ولم يتصد لها، بل السنة كالقرآن أيضاً، قد تركتها ولم تتعرض لها». بل يصل بجرأة استدلاله، واستعراضه مراحل صعود الخلافة وتدهورها، إلى تقرير أنها عقد يحصل بالمبايعة من أهل الحل والعقد لمن اختاروه إماماً للأمة بعد التشاور بينهم، تعبيراً عن الأمة، وعن مصلحتها، ما يعني أصلها البشري ومرجعيتها الدنيوية.

الرغبة في تجاوز المأزق الوجودي، والاندراج في سياق التاريخ يفرضان على جل أطياف الإسلام السياسي مراجعات كبرى

وأما الاتجاه الثاني فأساء تأويل فكر الإمام، وأعاد الكرة دفاعاً عن الخلافة الدينية، على نحو أفضى إلى هزيمة مشروعه الإصلاحي، وأفضى إلى الإسلام السياسي ثم الجهادي، وذلك عبر حلقتين متتابعتين: في الأولى أعاد محمد رشيد رضا تأويل الإمام على نحو سلفي قضى على جرعته العقلانية ومبدأه (التنويري) القائل بأولوية العقل على النص. وفي الثانية قام حسن البنا، تلميذ رضا، بتحويل سلفيته العلمية إلى حركية، بإنشاء جماعة دينية تصورها تربوية، أو روَّج لكونها كذلك، وهي إما سياسية منذ المبتدأ أو أنها استحالت كذلك وفق طبيعة الأشياء، كونها جماعة مغلقة تقوم على تميز نفسها في مواجهة الآخرين، ومن ثم على ثنائية «الذات – العالم»، حيث لا تتبلور هوية الجماعة إلا في مواجهة الآخرين من عموم المصريين/ المسلمين، وفق المنطق الأرسطي، المحكوم بمبدأ عدم التناقض الذاتي، فما دمت أنا أنا، وما دمت أنت أنت، فلن يكون أنا هو أنت، أو تكون أنت هو أنا، فأنا أنا في مواجهتك، وأنت كذلك في مواجهتي. ولعل هذا هو سر اغتراب الجماعة، وتطرف ما انبثق منها، فكرياً وليس بالضرورة تنظيمياً، من حركات بدأت بحزب التحرير ولن تنتهي بـ «داعش».


ومن ثم فإن الرغبة في تجاوز المأزق الوجودي الذي تعيشه مجتمعاتنا، والاندراج مجدداً في سياق التاريخ إنما يفرضان على جل أطياف الإسلام السياسي مراجعات كبرى، على طريق الاعتراف الثقافي الشجاع بحقيقة أن الدين لا يمكن أن يمتلك الحقيقة التاريخية كاملة، إذ لا يستطيع السيطرة على الواقع، ولا التصدي لأسئلته العملية، وأن ما ينفرد به من إجابات يتعلق فقط بأسئلة المعنى والمصير، ما يفرض على الإسلام السياسي الخروج من شرنقته الراهنة والدخول في صيرورة تحول تلج به إلى أفق جديد تجعل منه تجسيداً لإسلام مدني محافظ أخلاقياً فقط، وليس إسلاماً راديكالياً ذا بنية أيديولوجية مغلقة أو متعالية على التاريخ، ما يعني القبول بـ «العلمانية السياسية» كضرورة أولية لأي دولة مدنية حديثة ناهيك بأن تكون ديموقراطية، الدور الأساسي للدين فيها هو إضفاء الشعور بالأمن النفسي والتكافل الاجتماعي، عبر التكريس الأخلاقي والإلهام الروحي.

 

صلاح سالم-صحيفة الحياة اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية