الدبلوماسي غسان سلامة: النظام الغربي يتفكّك وينهار

الدبلوماسي غسان سلامة: النظام الغربي يتفكّك وينهار


كاتب ومترجم جزائري
17/11/2021

ترجمة: مدني قصري

كان الأكاديمي والدبلوماسي السابق، غسان سلامة في قلب العديد من الأزمات. الولايات المتحدة ما بعد أفغانستان، النهاية المتوقعة لهيمنة "الرجل الأبيض"، الوضع في الشرق الأوسط ، مستقبل القوى العظمى. في هذه المقابلة التي أجرتها معه أورينت XXI يعلّق مؤلف كتاب "الديمقراطيات دون الديمقراطيين" على النظام العالمي الجديد.

هنا تفاصيل الحوار:

كيف نفسر انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان دون شرف بعد عشرين عاماً من الوجود العسكري وإنفاق أكثر من 2 300  مليار دولار (1982  مليار يورو)، وفقاً للرئيس الأمريكي جو بايدن؟

أحد التفسيرات هو أنّ الولايات المتحدة "خصخصت" جزءاً كبير من عملياتها الخارجية. في البلدان التي تتدخل فيها تقوم بإنشاء شبكة اقتصادية ومالية تصبح هي المستفيد الرئيسي منها. لقد رأيت هذا في العراق عام 2003 عندما قام الجمهوريون بتجنيد الشباب لمنحهم تجربة معيّنة. ثم تدخلت الشركات الأمنية الخاصة، ولعبت في البداية دور الوكيل لحماية المستشفيات العسكرية. ثم تم تطوير صناعة حقيقية مسؤولة عن تجنيد المترجمين وتدريبهم إلى أن حلوا محلّ الجيش نفسه. رأيت جنوداً أمريكيين جاؤوا إلى العراق وبعد فترة وجيزة تم توظيفهم في هذه الشركات (الخاصة) التي كانت تدفع لهم مكافآت أفضل بكثير.

هذا النظام الاقتصادي المزدهر يجعل من المستحيل التساؤل عما يحدث بالفعل في البلاد. فعدما يتم في أفغانستان ذكر الميزانيات التي تم إنفاقها على مرّ السنين، يغفل المسؤولون عن ذِكر أنّ حوالي 40٪ من تلك الأموال أعيدت إلى الولايات المتحدة.

وهكذا فإنّ "طريقة الحرب الأمريكية" American way of war هي أوّلاً نظام يخلق مستفيدين أمريكيين. إنهم يتحولون إلى لوبي له مصلحة في عدم تغيير أي شيء، لأنهم يكسبون من وراء ذلك. وأفغانستان أوضح حالة على هذا الواقع. ويمثل هذا الاقتصاد أكثر من ثلث، بل وحتى 50٪ من الميزانية الأمريكية في عين المكان في العراق وأفغانستان ثم يعود إلى البلاد. وكان دونالد رامسفيلد، الصقر ووزير الخارجية السابق في البنتاغون، قد تولى مهمّة تنظيم هذه التعهدات من الباطن.

العلاقة الروسية التركية مسألة مثيرة للاهتمام. يقول المؤرخون إنها العودة إلى القرن التاسع عشر. مع التنافس بين الإمبراطوريتين العثمانية والروسية. لكن هناك أيضاً علاقة غير عادية على المستوى الدولي

لقد التقيتُ رامسفيلد مع رئيس الوزراء اللبناني في عام 2001. قال لنا إنه بمجرد القضاء على القاعدة، لم تعد تهمّهم أفغانستان. ومع ذلك، فإذا كان وجودهم قد طال كثيراً، فذلك بسبب وجود أشخاص مهتمين بهذا البقاء. أمّا بالنسبة لأعضاء الحلف الأطلسي، فلم يعد عندهم أي مبّرر للبقاء هناك، فانسحبوا تدريجياً.

كيف نفسر هذا الاتجاه، ما الذي يقوم عليه؟

في مطلع القرن الحادي والعشرين، شعرت الولايات المتحدة أنه لم تعد هناك حاجة لخبراء إقليميين أو مُحلّلين. المُنظّر وراء هذه الفكرة هو المحافظ الجديد بول وولفويتز، مساعد وزير الدفاع في عهد جورج بوش، الذي أخبرني في أحد الاجتماعات أنه لا يحتاج إلى مُعرّبين. وفكرته في ذلك أنّ هؤلاء المعرّبين يغرقون في التفاصيل ولا يستوعبون الواقع العام. باختصار، انتصر الأيديولوجيون على الخبراء. كل هذا على عكس ما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما روّج الأمريكيون لظهور علماء الأنثروبولوجيا، وحصلت الجامعات الأمريكية على أموال كبيرة لتأسيس الكراسي الأكاديمية في الأنثروبولوجيا. في ذلك الوقت، وظف البنتاغون الكثير من الخبراء الإقليميين، فكان ذلك العصر الذهبي للأنثروبولوجيا. بينما، على العكس من ذلك، أدت نهاية الحرب الباردة إلى التأثير المعاكس: انتصار الأيديولوجيا وفكرة أنّ الخبرة فكرة قديمة عفا عليها الزمن لأنها تركز بشكل كبير على الخصائص المحلية، وهي غير مجدية لتطوير اقتصاد السوق.

ما نتائج هزيمة الأمريكيين في أفغانستان؟ نهاية سيادة "الرجل الأبيض" كما تسمّيها؟

يحتفظ الأمريكيون بوسائل التدخل، البالستيّة والجوية. ومع ذلك، فقد تضرّرت سلطتهم على مستوى حلفائهم بشدة، خاصة وأنّ الاتفاقية العسكرية المسمّاة "Aukus" (اختصار لأستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ مع البريطانيين والأستراليين توحِي بأنّ الصين هي الرهان الآن. حتى بعض الدول الآسيوية تعيد التفكير في علاقتها بالولايات المتحدة.

لكن المهم هو "الرجل الأبيض". قرأتُ باهتمام مقالاً للأكاديمية الأمريكية والمحللة السياسية آنْ ماري سلوتر في The Economist قبل بضعة أسابيع. لقد كتبت أنّ المتغيّر الأكثر صلة هو التركيبة السكانية في الولايات المتحدة: الجنود الأمريكيون سُمْرٌ أكثر فأكثر، حتى لو كان القرار يأتي من الرجل الأبيض. عندما تنسحب واشنطن من منطقة ما، هناك عملية تاريخية أعمق: عودة النفوذ الغربي الذي لم يعد يملك إمكانات.

اقرأ أيضاً: ركيا والغرب من صراع المصالح إلى العمى الأيديولوجي

لا يمكن لأوروبا سوى إرسال حوالي 35000 جندي إلى الخارج. الجيش البريطاني لديه 90 ألف جندي فقط - أقل مما كان عليه في عهد كرومويل - ويتعيّن على أوروبا أن تتعامل مع رأيٍ عام أقلّ عدوانية في الخارج. يجب النظر إلى الانسحاب من أفغانستان ضمن هذا المنطق: شروط السيطرة على الكوكب لم تعد موجودة.

منذ باراك أوباما ودونالد ترامب والآن مع جو بايدن، أصبح الأمر يتعلق بإعادة القوة الأمريكية إلى منطق التنافس الوحيد بين القوى العظمى والتوقف عن إرهاق الجيش في الحروب الصغيرة، حتى لو استمرت هذه الحروب. لكنّ التأثير الغربي لا يسعه إلا أن يتضاءل لصالح القوى الإقليمية التي تمتلك الوسائل. تركيا لديها طائرات بدون طيار أكثر من فرنسا. إيران لديها قوات أكثر من أوروبا بأكملها، لقد رأيتُ تركيا في ليبيا تنشر جنوداً سوريّين. وسيكون لإيران والهند دور أكبر وأكثر استقلالية. يمكنك اليوم أن تكون عضواً في الناتو وأن تشتري صواريخ من روسيا.

اقرأ أيضاً: ضحايا الإرهاب في أفريقيا لا بواكي لهم في إعلام الغرب.. لماذا هذا التحيز؟

لا يسمح القانون الأوروبي، على سبيل المثال، بتوظيف مرتزقة بأي ثمن. لذا فإنّ هذه الحركة ستفيد القوى الإقليمية، ولكن أيضاً الجيوش التي تتشكل عبر العالم والتي تتمتع بحرية الوصول إلى سوق السلاح، ولديها انضباط وقوة بشرية لا تقل أهمية عن الجيوش النظامية، كما هو الحال مع حزب الله وجبهة تحرير شعب تيغراي.

هناك مستفيد آخر من هذه الحركة: المراكز الإرهابية التي ستستفيد من قدرة أكبر على النشاط . فالنظام الغربي القائم منذ أربعة أو خمسة قرون بدأ يتفكك وينهار.

هل يمكن أن نتخيل انسحاباً أمريكياً من الشرق الأوسط رغم أهميّة هذه المنطقة؟

لن ينسحبوا منه كما انسحبوا من  أفغانستان. في زمن الحرب الباردة، كانت الأولويات هي الدفاع عن إسرائيل، ومواجهة النفوذ السوفيتي، وأخيراً النفط. واليوم تضاءلت هذه الأسباب الثلاثة دون أن تختفي. صحيح أنّ إسرائيل تستطيع الآن الدفاع عن نفسها بمفردها. لقد اختفى الاتحاد السوفياتي، لكنّ روسيا باقية ويجد الأمريكيون صعوبة في فهم علاقة الروس بالشرق الأوسط. تستخدم روسيا دائماً الأساطير في علاقتها بهذه المنطقة، مع قياصرة في طريقهم إلى القدس وكنائس أرثوذكسية في فلسطين. لقد قاتل الشيشان والقوقازيون في سوريا، وهناك علاقة خاصة بين تركيا وروسيا.

لا يستطيع بايدن أن يتجاهل وجود روسيا في الشرق الأوسط، وأنه لاحتوائه يجب أن يكون حاضراً. من ناحية أخرى، للشرق الأوسط قوّة رمزية. القدس تتجاوز الإسرائيليين والفلسطينيين. فهي تتجاوز ما كان يسعى إليه جاريد كوشنر، صهر الرئيس السابق دونالد ترامب: صفقة عقارية عادية. أمّا بالنسبة للنفط، فحتى وإن  أصبحت الولايات المتحدة دولة مُصدِّرة، تبقى الحقيقة أنّ السيطرة على الموارد النفطية تظل قائمة ضمن المنافسة بين القوى العظمى. نحن نعلم أنّ نفط الخليج يُصدّر إلى الشرق وليس إلى الغرب فقط.

أكاديمية ومحللة سياسية أمريكية: المتغيّر الأكثر صلة هو التركيبة السكانية في الولايات المتحدة: الجنود الأمريكيون سُمْرٌ أكثر فأكثر، حتى لو كان القرار يأتي من الرجل الأبيض

العلاقة الروسية التركية مسألة مثيرة للاهتمام. يقول المؤرخون إنها العودة إلى القرن التاسع عشر. مع التنافس بين الإمبراطوريتين العثمانية والروسية. لكن هناك أيضاً علاقة غير عادية على المستوى الدولي: هناك مدرسة تطرح فكرة التحالف الروسي التركي الذي يتميز ببعض الخلافات، وهناك مدرسة ثانية تطرح فكرة المنافسة التي تميزت بوجود اتفاقيات. لكن إذا كانت هناك نقطة يتفق عليها فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، فهي الحد من النفوذ الغربي في المنطقة.

اقرأ أيضاً: عثمان كافالا يؤجج صراعات تركيا مع الغرب

لن أنسى أنّ هؤلاء السادة كادوا أن يسرقوا مني نجاحي الرئيسي في قمة برلين حول ليبيا: قبل ذلك بثلاثة أيام، كانوا يحاولون إعادة خليفة حفتر وفايز السراج (بَطلَيْ الصراع الليبي) إلى موسكو لمراجعة ما تم تحقيقه بشق الأنفس على مدى خمسة أشهر. فهذا يدعو إلى التشكيك في مبدأ الناتو. هذه هي درجة التواطؤ مع القوة التي أُنشِئ حلف الناتو ضدّها

وما مكان الأمم المتحدة في كل هذا؟

الأمم المتحدة مستبعدة اليوم من أهمّ الصراعات: أوكرانيا، الصراع العربي الإسرائيلي. يبدو أنّ هذه الصراعات أصبحت فرعاً من فروع الاتحاد الأفريقي (AU)، إذ يتم تنفيذ معظم أعمال حفظ السلام في إفريقيا.

عامل آخر: يؤكد جدول أعمال الأمانة العامة للأمم المتحدة على قضايا التكافؤ أو تغير المناخ، وهي قضايا مشروعة، لكن مهمتها الأصلية كانت الحفاظ على السلام في العالم. أين هو العمل الذي تم إنشاؤها من أجله؟ الصراع الليبي ليس حيويّاً بالنسبة لأيّ واحدة من القوى العظمى، حتى لو كانت تراقب الصراع عن كثب.

إنّ دور الأمم المتحدة دورٌ حاسم، لكنه هشّ للغاية، لأنه إذا لم يمسك السائق بعجلة القيادة بوضوح، فإنّ مجموعة من الدول ستستقرّ في مكانه. الأمم المتحدة هي التي صمّمت أصلا محتوى إعلان برلين بشأن ليبيا. لقد رأينا فرنسا وإيطاليا ومصر يأتون بأفكارهم الخاصة، وكان الأمر كارثياً لأنّ الليبيين كان لديهم خيار القائمة. تواصل الأمم المتحدة أداء دورها، ولكن يجب أن تفرض نفسها بصفتها للمحرك وليس بصفة المُعلِن عن المصالح المشتركة بين القوى.

في اليمن ، يمكن للأمم المتحدة أن تلعب دوراً أكبر، وكذلك ما بين المغرب والجزائر.

وسوريا؟

إنه لغز محيّر، بالنسبة للبلدان التي دافعت عن النظام وكذلك بالنسبة لتلك التي حاولت محاربته على السواء. هؤلاء جميعاً لم يعودوا يعرفون ماذا يفعلون ببلد مفكك ونظام غير مستعدّ لتقديم عرض سياسي مقبول لجميع السكان. الاهتمام بهذا البلد ليس في مستوى الضرر الذي لحق به. نصف السكان لم يعودوا يعيشون حيث كانوا يعيشون، إنها لكارثة ديموغرافية حقيقية.

اقرأ أيضاً: من هو عثمان كافالا الذي تسبب بـ"أزمة" بين أردوغان والغرب؟

ومع ذلك، يمكن إيجاد إجماع بين الدول الأربع المؤثرة في سوريا - الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران. إقناع روسيا بأنها ليست الوريث الوحيد للحرب السورية، وإقناع إيران بأنّ سوريا لا يمكن أن تكون تابعاً، وإقتاع تركيا بأنّ الحرب السورية لا يمكن اختزالها إلى حظر على الأكراد في الوجود السياسي، وإقناع الولايات المتحدة بأنه لا يمكن التخلي عن بلد لا يزال بإمكانه إشعال الشرق الأوسط بأكمله. لكنني لا أعتقد أنّ الحلّ يمكن أن ينبثق من داخل البلد أو من عملية أستانا. يمكن للأمم المتحدة أن تلعب دوراً في تحقيق الإجماع، ربما.

ولبنان في النهاية؟

هذا البلد هو ضحية وجوده خارج إمكانياته واختياره الدوغمائي لسياسة نقدية ترضي اللبنانيين قبل أن تدمّرهم. كان من الواضح أنّ هذا النظام لا يمكن أن يستمر، كنتُ شخصياً قد أعلنت هذا عام 2011 ، وقد انتقدتني جمعية المصارف اللبنانية. لقد حوّلوا جزءاً كبيراً من السكان إلى متواطئين في هذا النظام، وهم في ذلك مذنبون.

يؤدي اقتران استقلالٍ أكبر للنخب المحلية بالأيديولوجية النيوليبرالية إلى إنشاء أنظمة كليبتوقراطية (حكم اللصوص) في البلدان المحيطية، وكان أسوأ هذه الأنظمة العراق وليبيا. إنّ نظام الكلبتوقراطية  kleptocratie (1) اللبنانية فريد من نوعه من حيث أنه يقوم بإعادة التوزيع، فهو يسرق من المواطنين ما يمنحه لمؤيديه. يمكن للمشيخات أن تعتمد على خزائن الدولة، ولكن يُعاد توزيع معظمها. فهم أنفسهم يمارسون دور الدولة في إعادة التوزيع، ولذا يبدو هذا التوزيع متيناً ودائماً. لكنها إعادة توزيع تمييزيّة.


الهامش:

(1) الكلِبتوقراطية kleptocratie أو حُكم اللصوص هي حكومة يستخدم قادتها الفاسدون السلطة السياسية للاستيلاء على ثروة شعوبهم، عادةً عن طريق اختلاس أو سرقة الأموال الحكومية على حساب عموم السكان. واللفظ مركب من مقطعين باللغة الإغريقية؛ أولهما "كلبتو" (kleptos) بمعنى سرقة، وثانيهما "قراط" (kratos) بمعنى حُكم.

مصدر الترجمة عن الفر نسية:

orientxxi.info/magazine

https://orientxxi.info/magazine/ghassam-salame-l-ordre-occidental-s-effrite,5134




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية