المفكر يوسف سلامة يلوّح بالوداع: مدافع عنيد عن الحرية

المفكر يوسف سلامة يلوّح بالوداع: مدافع عنيد عن الحرية

المفكر يوسف سلامة يلوّح بالوداع: مدافع عنيد عن الحرية


07/03/2024

غيّب الموت المفكر الفلسطيني السوري يوسف سلامة في مدينة مالمو بالسويد، مساء الرابع من الشهر الجاري، حيث نعاه أصدقاؤه على مواقع التواصل الاجتماعي، مستذكرين مآثرة الفكرية والشخصية، ودفاعه العنيد من أجل الحرية.
وقالت عائلته في منشور على "فيسبوك": "يوسف كما يعرفه الكثيرون كان محباً للحياة، وللفلسفة، وللموسيقا، ولعائلته وللأصدقاء.  أمضى يوسف العقد الأخير من حياته بسبب المهجر بعيداً عن كثير من أحبته والطرقات الدمشقية التي حفظها عن ظهر قلب، ولكنه بقي حتى النفس الأخير مؤمناً بعدالة القضيتين السورية والفلسطينية، مصارعاً بكل شجاعة كل أشكال الاستبداد والطغيان".

ولد يوسف سلامة العام 1946 في قرية أم الزينات، بمدينة حيفا في فلسطين. أصيب بمرض الرَمَد الطبيعي، مما أفقده البصر بشكل شبه كامل في الرابعة من عمره.

ونعت رابطة الكتّاب السوريين، يوسف سلامة: "عرفت أجيال من السوريين الراحل من خلال عمله في كلية الآداب قسم الفلسفة، حيث حضر مع مجموعة من الأساتذة في لحظات مهمة، واجهوا فيها التسلط الأسدي على الوسط الأكاديمي، والسعي الحثيث لتفريغ الجامعات السورية من النخبة التنويرية. وقد ظل الراحل، وبما عرف عنه من الصلابة في المواقف المترافقة مع الدماثة واللطف، على ما عهده عنه تلامذته من الدأب، أميناً على الغايات النبيلة للمهنة، والعمق الفكري للمادة الفلسفية".

موقف غير مهادن

وأضاف بيان الرابطة: "ومنذ انطلاق الثورة السورية، كان موقف الراحل واضحاً، غير مهادن، في مواجهة عسف النظام وجوره وإجرامه، فكان أن اضطر إلى مغادرة البلاد مع ملايين السوريين إلى المنفى في السويد، لكنّ همته لم تفتر، حيث تولى رئاسة تحرير مجلة قلمون الصادرة عن مركز حرمون للدراسات المعاصرة، فأنجز مع عشرات من الباحثين 26 عدداً رصيناً ركزت على هموم الشعب السوري وقضاياها الحارة".

عرف عن يوسف سلامة الصلابة في المواقف المترافقة مع الدماثة واللطف

وعن صديقه الراحل، كتب المفكر الفلسطيني، وعميد بيت الفلسفة بالفجيرة د. أحمد برقاوي:

 "وحين يغمض جمرُ الفيلسوفِ جفنيه،

ويلفظُ العقلُ سناءاته الأخيرةَ

ويلوح جناحاه برفرفة الفناء

يتحولُ الوجودُ إلى بيتِ

عزاء،

وتلبسُ الآلهة والآلهاتُ أثوابَ السواد

 حداداً وحزناً لا يزول.

يوسف سلامة صديقي يلوّح لكم بالوداع الأخير".

مفكر حاد البصيرة

المفكر السوري وأستاذ الفلسفة في جامعة السوربون د. خلدون النبواني، كتب على صفحته في "فيسبوك": تحتاج الكتابة عن يوسف سلامة الفيلسوف لمزاج غير جنائزي كالذي يكتسحني الآن ولا شك أنّ من واجبي، من واجبنا الكتابة عنه". 

 

في حديثه عن الفلسفة العربية المعاصرة، كان سلامة يقول بأنه، والفلاسفة العرب المعاصرين، يقدمون (نشاطاً فلسفياً) أكثر مما يقدمون رؤى فلسفية

 

وأضاف النبواني: "الآن ما يستحضرني هو الصداقة، لحظات الفرح، لحظات الحزن، الغناء، الشرب، أزقة مخيم اليرموك وشوارع جرمانا. المعهد الفرنسي في المهاجرين وجامعة دمشق. كان الدكتور يوسف كتلة متقدة من الحياة والتحدي منذ طفولته التي تذكر بـ "الأيام" لطه حسين، فيوسف سلامة فقد بصره طفلاً أيضاً، ومع ذلك صار مفكراً حاد البصيرة عميق الدلالة والمعنى. أتذكر أنه حين زارني في باريس أول مرة (أظن ذلك عام 2006) أصر أن يصعد إلى قمة برج إيفل. لم أكن قد صعدت إليه حينها (ولم أصعد إليه بعدها) ولأني لم أكن قادراً على شراء تذاكر الصعود لضيفي. تعللت بطول الانتظار على الدور وأننا يمكن أن نشاهد باريس من سطح معهد العالم العربي (حيث الصعود مجاناً) لكنه أصر عليّ ودفع هو (الذي لم يكن لديه أكثر من راتبه التدريسي) ثمن التذاكر. في أعلى البرج صار يسألني ماذا أرى وكنت أقول له بخجل المبصر كما لو أنني أعتذر عن قدرتي على الرؤية أمامه عن كل ما أراه من عل. ذكرت له أنّ أسماء الدول مكتوبة أعلى البرج من حيث الاتجاه فسألني عن جهة فلسطين كالمصلي الذي يسأل عن اتجاه القبلة. لم تكن فلسطين هناك مكتوبة وإنما إسرائيل، ومع ذلك قلت له فلسطين من هذا الاتجاه ووجّهته من كتفيه. في المساء التقينا بأصدقاء له فسألوه عن إجازته الباريسية القصيرة، فراح يصف لهم المشاهد الخلابة من أعلى برج إيفل بشكل أذهلني شخصياً، فقد كان وصفه أفضل وأكثر دقة وتفصيلاً بمرات من وصفي  للمشهد حينما طلب مني ذلك أعلى البرج. مرة أخرى تذكرت طه حسين والجزء الأول من "حديث الأربعاء" حيث يصعب لك أن تصدق أنّ ذاك الرجل أعمى وهو يصف بكل تلك اللغة الحسية المذهلة الناقة والفرس والصحراء والسيف والخمر في قراءاته للشعر الجاهلي".

ونشرت الكاتبة الفلسطينية سميرة المسالمة، على صفحتها: "رحل بعد أن منحني فرصة لقائه الأخير منذ أيام، لا أعرف لماذا شعرت أنّ دعوته والسيدة وفاء لي كانت جادة، لأنها دعوة للوداع، سافرت دون تردد، دون أي انتظار، خشيت أن أعيش لحظات الندم إذا لم ألتقيه قبل رحلته الأخيرة، لا تزال كلماته ترن في أذني، الحياة خياري وسأتمسك بها، غائباً أم حاضراً، الآن أدركت أنّ الحياة لا تعني الحضور بالجسد فقط، بل تعني البقاء في ذواكر من نحب".

سريع الخطو ثابت الإيقاع

وعن الراحل كتب صديقه شريف مبروكي: "كانت الحياة والفلسفة يتمازجان في دمه، في كأسه، في صوته، في مهجته وفي جميع انفعالاته، يخترع الدعابة في أكثر الأوقات بؤساً وعتمةً كأبيقوري ساخر، ويدلي بالأساسي في كل كلام وفي كل مناسبة بخفة وبداهة فائقتين، يذهب عميقاً إلى ما هو جوهري في كلّ شيء ولا يكترث للنوافل والترهات. سريع الخطو ثابت الإيقاع رغم فقدانه البصر. لا أحد يعرف كيف يأتي وكيف يذهب ولكنّه كان موجودأً دائماً بيننا حين ننتظره.

تشرفتُ بأن كان مشرفاً على رسالتي عن "الوعي الباطن بالزمان في فينومينولوجيا ادموند هوسرل"، ولولاه لما أنجزتُ شيئاً منها، كانت ملاحظاته، دون توجيه سلطوي، خرائط تفكير، وشواخص معنى، ودليل كتابة ومعرفته بالمتن الفينومينولوجي نادرة في الفكر العربي. كنتُ أقرأ له نصوصاً طويلة ومكربة باللغتين الفرنسية والانكليزية لساعات، كان يستمع بكل حواسه وجسده دون حركة أو نأمة. كان رجلاً قوياً ومهاباً وكريماً بدون حدود. الله يرحمو".

يوسف سلامة: الحياة خياري وسأتمسك بها، غائباً أم حاضراً

أما الكاتب مناف الأحمد فكتب: "لم يكن يوسف سلامة أستاذ فلسفة بارزاً فحسب، ولكنه كان إنساناً جميلاً راقياً يتقدم به السن فلا يؤثر على روحه الشابة، وتمضي به الأيام، فلا تفت في عضده ونشاطه ومثابرته".

صاحب فلسفة الحياة والحرية والمقاومة

أما الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني ماجد كيالي، فكتب على صفحته: "أخذه منا القهر والألم والمرض، في حياة نتنقل فيها من نكبة إلى نكبة، أو نكبات نحاول في كل منها بعضاً من حياة…

رحل صاحب فلسفة الحياة والحرية والمقاومة، التي درّسها لأجيال من الطلبة في جامعة دمشق، بسيرته الممتدة بين فلسطين وسوريا والسويد. أتذكر فرحه في رحلتنا سوياً إلى البلاد، حيفا ويافا والقدس ورام الله والجولان، للقائه وطنه الأول، والأمل الذي ظل يعيش ويكبر معه.. سيتذكره رفاقه وطلابه ومعارفه..خساراتنا كبيرة في هذا الزمان…خالص المواساة لزوجته العزيزة وفاء وأولاده رنيم وسليم وقاسم ولكل رفاقه ومعارفه".

الكاتب حسام الدين درويش، نشر على صفحته: "رحل الإنسان، وفي كل رحيل إنساني لا إنسانية. رحل يوسف سلامة وفارق الحياة بعد أن تبادل معها ممارسة الحب بكل معانيه. رحل من تغلب على قدره وصنع مصيره بإرادته: إرادة الحياة (الناجحة والمليئة بالمسرات).

كان مزيجاً مميزاً من المبدئية والبراغماتية، من الفلسفة النظرية والروح العملية، من حامل الرسالة الكونية والباحث عن المصلحة الذاتية، من المواجهة الصِدامية والمناورة الالتفافية، من الرؤية الاستراتيجية والعمليات التكتيكية، من العقل البارد الذي لا يهدأ والمشاعر الجياشة والعواطف المشتعلة التي لا تنطفئ ...!

نصوصه القليلة، لكن المهمة، كانت عن "مفهوم السلب عند هيغل"، "المنطق عند إادموند هوسرل"، و"الإسلام والتفكير الطوباوي"، لكنّ تأثيره المهم في الفكر السوري/ الفلسطيني، الفلسفي وغير الفلسفي كان من خلال محاضراته الجامعية وغير الجامعية وعلاقاته الاجتماعية الفكرية، مع طلابه وغيرهم.

 

المعركة المادية مع الموت خاسرة لا محالة، لكن إذا كان هناك مجال للانتصار المعنوي عليه، فيوسف سلامة من المنتصرين بلا شك

 

المعركة المادية مع الموت خاسرة لا محالة، لكن إذا كان هناك مجال للانتصار المعنوي عليه، فيوسف سلامة من المنتصرين بلا شك".

وبحسب الكاتب أحمد يوسف فقد "قدم سلامة ثلاثة كتب أساسية: مفهوم السلب عند هيغل، المنطق عند إدموند هوسرل والإسلام والتفكير الطوباوي. ويناقش في كتابه الأخير، وهو أصغر كتبه، استنفاد الإسلام لأطروحته الأساسية، ملمحاً إلى وجوب البحث عن أطروحة جديدة يراها في الحداثة والقطيعة مع التراث. ويبدو أثر هيغل واضحاً عليه حيث يدور طرحه حول فكرة واحدة وهي أنه لكل حضارة فكرة حضارية أساسية تقوم عليها، وهي في سياق الإسلام التوحيد. 

وفي محاضرة عن ابن رشد، ألقاها في المعهد الفرنسي للدراسات العربية، قدم سلامة طرحاً يصلح لفهم الفلسفة العربية بشكل عام، وخصوصاً لدور الفيلسوف في ثقافته ونضال العقلانية وما تواجهه من تحديات في ثقافة المقدسات والغيب.

وأذكر أنه، في حديثه عن الفلسفة العربية المعاصرة، كان يقول بأنه، والفلاسفة العرب المعاصرين، يقدمون (نشاطاً فلسفياً) أكثر مما يقدمون رؤى فلسفية، وأظنه كان يرد ذلك إلى الواقع المعاش والظروف التاريخية للواقع العربي".




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية