توظيف مبدأ الجاهلية الثانية وفعالية الإرشاد النبوي لدى جماعات الإسلام السياسي

توظيف مبدأ الجاهلية الثانية وفعالية الإرشاد النبوي لدى جماعات الإسلام السياسي

توظيف مبدأ الجاهلية الثانية وفعالية الإرشاد النبوي لدى جماعات الإسلام السياسي


29/02/2024

يمثل مبدأ الجاهلية الثانية الركيزة الأساسية التي يقيم عليها الإسلام السياسي مشروعه الذي يحمل طابعاً دينياً ونضالياً، حيث ينطلق مشروع الإسلام السياسي من افتراض عيش المجتمعات الإسلامية حالة من غربة الإسلام، التي لا يعرف من الإسلام فيها غير صورته، ويطلق عليها الجاهلية الثانية حسب ما قدّم سيد قطب. ويبني الإسلام السياسي مشروعه للخروج من هذه الجاهلية وعودة الإسلام من جديد، ويفترض هذا ضمنياً وصاية ما على المجتمع، تجعله يقدم مشروعه بوصفه خطة إنقاذ وليس طرحاً سياسياً، ولانطلاقه من زاوية عقائدية يأخذ مشروعه خطة إنقاذ العقيدة والدين، وهذا ما يتضمنه مصطلح الجاهلية الثانية الذي يوحي بدعوة نبوية جديدة، تحمل الأبعاد النبوية من العصمة، والإرشاد، والهداية، والنضال. 

البعد النضالي والعصمة من الخطأ

عادة ما يحمل الدور النضالي رؤية مسبقة يعمل على فرضها والنضال من أجلها، لا على فهم الواقع ومتطلباته، وعلى الرغم من أنّ هذه الكيفية تجعله بعيداً عن الواقع بنسبة غير قليلة، إلا أنّه يطالب هذا الواقع بالاعتراف أنّه مدان له، لأنّه يسعى إلى صالحه الذي يرى أنّه غير مؤهل للسعي إليه، فالبُعد النضالي يحمل نزوعاً أبويّاً بالمفهوم الأبوي في الثقافة العربية؛ الذي يرى الواجبات المفروضة على الابن دون أن يرى الحقوق التي له، ويكون الابن خاضعاً للمساءلة واللوم، والأب يتمتع بالعصمة عن الخطأ النابع منها عدم خضوعه للمساءلة. وعبر مبدأ الجاهلية الثانية الذي يُعدّ توصيفاً للواقع -حسب ما تطرحه التيارات الإسلاموية- يتضمن افتقاده للدور الإرشادي النبوي الذي محا الجاهلية الأولى، لهذا يفرض الإسلام السياسي رؤيته في قالب نضالي ذي طابع إرشادي نبوي، فيطالب الواقع بالمثول لأجندته السياسية التي يعطيها سمات دينية من خلال مظاهر التدين والاستهلاك الإيديولوجي للمفردات الدينية، ويرى في نفسه النزاهة والتقديس التي تجعله منزّهاً عن الاتهامات السياسية والإنسانية المعتادة. 

وتعطي العصمة التي يعرفها الدور النضالي ميزة استعلائية تعطي للمناضل حق تحديد وجهة المجتمع ككل، فضلاً عن الدور البطولي المتفاني من أجل قضيته المثير للإعجاب والذي يجعل المجتمع مداناً له، وفي حال الإسلام السياسي فإنّ الأمر يأخذ بُعداً دينياً يعطيه الكثير من التقديس والاستعلاء المبرر دينياً، خاصة في حالة القهر والانهزام التي تعيشها المجتمعات المسلمة، حيث يعلن الإسلام السياسي نفسه حامياً للدين ومناضلاً لأجله، ويستغل التداخل الهوياتي وأزمات الانتماء في المجتمعات المسلمة ليعلن نفسه ممثلاً لهوية هذه المجتمعات التي افتقدتها في خضم الحياة المتقدمة، وتُعدّ الهوية هنا في حالة تماهٍ مع الدين، ويعلن الإسلام السياسي صراحة أنّه حامل صلاح الأمّة في الدارين، وذلك من خلال الزعم بأنّه منفذ الرغبات الإلهية، وأنّ منهجه هو المنهج الإلهي الذي يريده من الناس جميعاً، ومن ثم يصبح في حالة تماهٍ مع الله، ويظهر هذا بوضوح في خطابه الذي يتفوه عادة بعبارات مثل (قال الله، ويقول الله)، وما توحي به من تجاوز الخطاب للإطار البشري وانطلاقه عن الله. 

ضمير الأمّة الذي لا يحاكم 

عبر تماهي الإسلام السياسي مع الله يرى في نفسه قوامة دينية تجعله يحاسب المجتمع ويحكم عليه بكفره أو بإيمانه، ولا يُسأل عمّا يفعل، وأمّا الآخرون، فإنّهم يُسألون، لأنّه يحمل تنزيهاً إلهيّاً يجعله في غنى عن تبرير أفعاله، فهي غير مبررة لأنّها إلهية تسعى للحفاظ على الأمّة وصون الدين وحراسة هوية الأمّة المهددة. ومن ثم يعدّ الإسلام السياسي نفسه ضمير الأمّة الذي لا يُحاكَم، ولكنّه يُحاكِم، ويتهم المجتمعات الإسلامية بالكفر وبالحاجة إلى الفتح الإسلامي من جديد، من خلال مبدأ الجاهلية الثانية الذي يجعل المجتمع الإسلامي في حاجة لإثبات إيمانه وعدم حيده عن الطريق الإلهي، الذي يتهمه الإسلام السياسي عادة به، إلى حدّ أنّه يجد نفسه مطالباً بنفي هذه التهمة عنه بشكل شبه دائم. 

والجاهلية الثانية التي يتهم بها الإسلام السياسي المجتمعات المسلمة تعني أنّه يمثل الهداية والخروج من الظلام الذي تعيشه هذه المجتمعات، كما أنّه يتعالى بطرحه ليشبه البعثة النبوية ذات البُعد الإلهي؛ الذي أعطاها حق تسيير أمور الاجتماع في شبه الجزيرة العربية وفقاً لتفوقها الإلهي، فطاعة المسلمين في شبه الجزيرة العربية عام 610م للنبي محمد، كانت لحمله الرسالة الإلهية التي تجعل طاعته من طاعة الله، وهذا ما يطالب به الإسلام السياسي المجتمعات المسلمة؛ بأن تمتثل لأوامره بوصفه مبعوثاً إلهيّاً، لا بوصفه طرحاً إنسانياً دنيوياً، لذلك يأتي خطابه بشكل إثني غير قابل للتنوع والاختلاف؛ فثنائية الحق والباطل هما عماد خطاب الإسلام السياسي الذي يقدّم نفسه بأنّه الحق في مقابل الآخرين الذين يمثلون الباطل، ويعطي لنفسه الوظيفة الإرشادية الدينية ذات الطابع النبوي، وعليه لا يكون للآخرين أيّ دور تنافسي، وأقصى ما يمكن أن يفعلوه نفي هذه التهمة عنهم.

وتُعدّ الرقابة والتعددية قوام الحكم والسياسة بالنسبة إلى العقل المعاصر، وذلك لما تعطيه السلطة من مميزات تزيد من طمع صاحبها وتفشيه، فعبارة لورد أكتون (1834-1902): "كلّ سلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة" تعبّر عن الواقع الإنساني بشكلٍ كبير، فغياب الرقابة والتعددية يعني عدم المساءلة أمام الشعب، ويفضي هذا إلى حالة من الاستبداد والجمود يصعب تخطيها، لأنّها تفرض نفسها وكأنّها قانون الطبيعة الذي لا يملك الإنسان حياله غير الإذعان. وفي حال الإسلام السياسي فإنّه يقدم نفسه ليس بوصفه قانوناً للطبيعة، بل الاختيار الإلهي المنزّه والمقدّس الذي يفرض على الآخرين الالتزام به من باب الإيمان، والمرشد في حالة التيه التي تعيشها هذه المجتمعات، ومنقذ هذه الأمّة من الضلال كما فعل النبي محمد قبل ذلك، وهذا ما يجعل الإسلام السياسي بمقوماته وبنائه الفكري يمثل خطراً حقيقياً على الفكر والمجتمع الإسلاميين، حيث يمثل نوعاً آخر من الاستبداد، استبداد باسم الحياة الآخرة لا يحمل أيّ ضمانات في الدنيا، ولا يمكن الحكم على نتائجه إذا كانت صالحة أو غير صالحة، أو النظر إلى مزاعمه إذا كان تم تحقيقها أو لم يتم ذلك، ومن ثم لا يخضع لأيّ نوعٍ من المساءلة أو الحساب، وليس من حق الجماهير الحكم عليه، لأنّه متجاوز مسألة الحكم بوصفه إلهياً مجاوزاً للإطار الإنساني، وما يعنيه هذا مفسدة مطلقة لا رقيب عليها تطالب المجتمع بأن يكون مداناً لها لما هو عليه، كما هو مدان لله لما هو عليه.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية