عيد آخر برائحة الدماء في الخرطوم

عيد آخر برائحة الدماء في الخرطوم

عيد آخر برائحة الدماء في الخرطوم


26/06/2023

مُبكراً منذ إطاحة الجبهة الإسلامية القومية (إخوان) بنظام الحكم المدني الديمقراطي؛ ممثلاً في حكومة الصادق المهدي 30 حزيران (يونيو) 1989، شرعت في سَنّ ما لم يكن يظن السودانيون أنّه سيحدث في بلادهم؛ القتل بلا رحمة في الأيام المقدّسة.

ويبدو أنّ الإخوان المسلمين يتخيّرون إصابة وإتلاف وإلحاق الأذى بمعنويات ونفسيات المواطنين، قبل إراقة دمائهم وإزهاق أرواحهم وتدمير ممتلكاتهم، ففي فجر 28 رمضان 1990، قبل العيد بيومين فقط؛، وبعد انقلابها بنحو شهر واحد، أعدمت الجماعة (28) ضابطاً بتهمة تدبير محاولة انقلابية عام 1990، دون تقديمهم إلى المحاكمة، مع إخفاء جثثهم ومتعلقاتهم الشخصية. 

كانت تلك الجريمة، التي ما تزال حيّة في ذاكرة الشعب السوداني، تدشيناً بالغ الفصاحة للحقبة الدموية في السياسة السودانية التي بلغت أوجها في الحرب الماثلة في الخرطوم وغيرها من المدن.

 مدينة أشباح

بعد نحو (33) عاماً من تصفية الضباط فيما عُرف بمذبحة 28 رمضان، حيث عاش السودانيون أسوأ عيد في تاريخ بلادهم جرّاء تلك الجريمة، ها هي ذي جماعة الإخوان عادت لتشعل الخرطوم مجدداً في العشر الأواخر من رمضان عام 2023، في 15 نيسان (أبريل) لتشعل الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وتدق أسفينها بين قائديهم عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، وتشهد الخرطوم مجدداً عيد فطر برائحة الدماء وتخثر الدماء وتعفن الجثث في شوارع العاصمة التي هجرها سكانها فأصبحت مدينة أشباح، لا صوت فيها يعلو فوق أزيز الطائرات ودوي المدافع وزخات الرصاص وصراخ المتقاتلين "الله أكبر" عوضاً عن تهليلات العيد.

يبدو أنّ الإخوان المسلمين يتخيّرون إصابة وإتلاف وإلحاق الأذى بمعنويات ونفسيات المواطنين

 وما بين عيديّ الفطر والأضحى، ترك معظم سكان الخرطوم منازلهم وهجروا مدينتهم إلى مدن أُخرى أو دول مجاورة، وقد رفض الجيش السوداني أيّ هدنة أو مفاوضات تفضي إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، فعطل مسار جدة، وأوقف مبادرة (إيغاد) في مهدها، وطرد الأمم المتحدة ممثلة في رئيس بعثتها فولكر بيرتس، واعتبره شخصاً غير مرغوب به، فأغلق كل الآمال لعودة الهدوء إلى العاصمة والولايات المتأثرة بالحرب.

عيدان من الدم 

ربما اعتاد السودانيون على حفلات الموت التي ينظمها العسكريون والإخوان عندما تقترب الأعياد بصفة خاصة، وكانت مجزرة القيادة العامة عند فض الاعتصام السلمي في حرمها في 29 رمضان 2019، الذي يوافق 3 حزيران (يونيو)، عندما دهمت قوات مشتركة من الجيش والدعم السريع وقناصة يعتقد أنّهم من كتائب الإخوان المسلمين مقر الاعتصام، فقتلت بدم بارد، ودونما رحمة وشفقة، أكثر من (100) شخص، وألغت بـ (40) في نهر النيل، واغتصبت نحو (70) شخصاً، فكسرت قلوب المواطنين، وأحالت فرحتهم بإسقاط البشير ومقدم أول عيد بدونه إلى جحيم ومأساة.

ما بين عيديّ الفطر والأضحى، ترك معظم سكان الخرطوم منازلهم وهجروا مدينتهم إلى مدن أُخرى أو دول مجاورة

وها هي ذي المجموعات المسلحة الـ (3) نفسها تضرب الآن عيدين بحجر واحد، عندما أشعلت الحرب في رمضان، وعندما رفضت الحلول السلمية طوال الشهور الماضية، إلى أن حلّ عيد الأضحى والحال لم يبرح طلقته الأولى.

جثث متحللة

منازل مهجورة، وجثث ملقاة على الشوارع لا تجد أحداً يواريها الثرى ويكرم مثواها الأخير، حكومة مختبئة في الأقبية تحت الأرض التي تدور فوقها معارك طاحنة وقتلى بعشرات الآلاف، وفقاً لعينة عشوائية من مواطني الخرطوم استطلعتهم "حفريات"، وشككوا في أرقام القتلى المدنيين والعسكريين التي يتم تداولها في المنصات الإعلامية، وأكدوا أنّها أكثر ممّا يُذكر بعشرات المرات، وأنّ رائحة الجثث المتعفنة تزكم الأنوف، وتصيب القلوب بالوهن.

 وأشار محمود إسماعيل ـ بائع خضروات بالسوق المركزية في الخرطوم ـ إلى أنّ الخرطوم ماتت كمدينة، وأنّه يُشكك في إمكانية إعادة بنائها مرة أخرى، إذا ما توقفت الحرب.

 اعتاد السودانيون على حفلات الموت التي ينظمها العسكريون والإخوان عندما تقترب الأعياد بصفة خاصة

 وقال لـ "حفريات": لا أحد يهتم بالعيد، لن يكون هنا عيد أضحى ما عدا الصلاة، وهذه ستكون في نطاق محدود، فما تبقى من عائلات وأفراد في المدينة معظمهم من الفقراء الذين لا يملكون مالاً يمكنهم من مغادرة منازلهم إلى المدن الأخرى أو خارج البلاد، وإلّا فهل يمكن أن يختار عاقل العيش تحت ضربات الطائرات والمدافع، ويضع حياته وحياة أسرته وأبنائه على المحك؟ 

 بالنسبة إلى عائشة علي (اسم مستعار)، فإنّ التفكير في الاحتفال بالعيد في مدينة للأشباح والموت المجاني والسرقات والاغتصاب والفوضى العارمة؛ يصبح محض ترفٍ لا داعي له، فحتى الذين سيذهبون لأداء الصلاة ربما لن يعودوا إلى أطفالهم وعائلاتهم مرة أخرى، فالجنون صار السمة الأبرز للمتقاتلين في شوارع المدينة.

 لا حياة

معظم أعمال البقالة والجزارة والتموينات مغلقة خشية النيران العشوائية واللصوص القساة، ينهبون ممتلكاتك ويقتلونك في غالب الأحيان، لذلك كل شيء في الخرطوم مغلق، إنّها مدينة مغلقة على ضرب الرصاص، وسكانها يضعون أرواحهم على أكفهم في انتظار الموت، فعن أيّ عيد تتحدثون والمدينة برمّتها ضحية نزاع حول الحكم؟ وتضيف عائشة علي: في كل بيت ثمّة قتيل أو جريح أو مفقود أو مكسور القلب حزين بسبب موت أخ أو صديق أو زميل أو سرقة ممتلكاته أو تدمير منزله أو رحيل أهله وتشرد جيرانه، فلا أحد في السودان كله، دعك عن العاصمة الخرطوم، سيحتفل بالعيد، لا أعتقد أنّه ما زالت في قلوب السودانيين مساحة للفرح، لا أظن.

 إلى ذلك، يرجح مراقبون استمرار الطرفين المتقاتلين في الحرب خلال أيام العيد، إذ يتربصان ببعضهما بعضاً في كل لحظة وساعة، لا يعرفان حُرمة لجمعة ولا لعيد ولا لأشهر حرم، فإذا ما غفل أحدهم، وظنّ أنّ العيد سيكون عاصماً له من الحرب، فإنّ ذلك سيكون قاصماً لظهره، لذلك فلا هدنة في العيد ولا بعده في ظل غياب إرادة سياسية لوقف الحرب، على الأقل لأيام معدودة يتنفس فيها المواطنون، ويتمكنون من قول "كل عام وأنتم بخير" لبعضهم البعض.

مواضيع ذات صلة:

يحلمون بالعودة إلى الحكم... دور "الإخوان" في إشعال الحرب في السودان

المسألة السودانية: قتال إثني وتحركات انفصالية وانتهاكات واسعة

هل تبدأ القاعدة وداعش بتنفيذ عمليات في إثيوبيا والسودان قريباً؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية