إنجاز كرة القدم تجلٍّ لإمكان تاريخي

إنجاز كرة القدم تجلٍّ لإمكان تاريخي

إنجاز كرة القدم تجلٍّ لإمكان تاريخي


20/12/2022

النسخة القطرية من كأس العالم لم تكن مجرد لعبة لكرة القدم تحقق المتعة للمشاهدين؛ بل كانت مشعلاً لانكشاف أحلام شعوب بكاملها، ذلك أنّ صعود المنتخب المغربي إلى نصف النهائي هو حدث اعتُبر استثنائياً وغير مسبوق، عربياً وأفريقياً، حدث كسر نمطية المسار التاريخي للعبة كرة القدم.

ويمكن القول إنّ هذا الحدث انعراج كشف عن هشاشة وضعنا النفسي، الحالم بتجاوز قصوره الذاتي، نحو مصافّ الندية والمنافسة مع أعرق المنتخبات العالمية، وهي هشاشة شهدتها الشوارع العربية والعالمية، فقد امتدّ الاحتفال إلى كل بقاع العالم، أينما وجد مسلم أو عربي، ورفعت راية البلد الذي اعتبره هؤلاء يمثلهم، عبر الانتماء الديني أو اللغوي أو الجغرافي.

جدل القصور الذاتي

 لكن أليس تصنيف إنجازاتنا بالحالات اللّامتوقعة، أو بالحدث المعجزة، أمراً يوحي بمتلازمة قصورنا الذاتي؟ ألا نعترف بأنّ تحقيق خطوة تقدمية في التاريخ لا تأتي إلّا على شاكلة طفرة تكسر هذا المعتاد، الذي لا يشبهها ولا يمثلها؟

بدأت الحكاية بكلمات غير عادية لمدرب المنتخب المغربي؛ إذ جرت العادة أن يبرر المدرب النتيجة، ويقدّم دفاعاً عن اختياراته، أمام انتقادات المختصين جراء تعادله مع المنتخب الكرواتي، لكنّه مسح الطاولة، واكتفى بالقول: "كفاكم نقداً، أود لو أسمع كلمة سِر". الكلمة هنا تعبّر عن وجود طريق وجب السير فيها، المطلب أن نكون إيجابيين وندفعه ليسير. لم يتساءل أحد إلى أين؟  لتحقيق ماذا؟ أو ما الغاية من السير؟ حتى أنّنا لم نتساءل: ألم نكن نسير قبلاً؟ 

كشف صعود المنتخب المغربي إلى نصف النهائي في مونديال قطر 2022 عن هشاشة وضعنا النفسي، الحالم بتجاوز قصوره الذاتي، نحو مصافّ الندية والمنافسة مع أعرق المنتخبات العالمية

 

قد يكون النقد الذي نمارسه إزاء ذواتنا ليس نقداً بقدر ما يعبّر عن جلد وانتقام ذاتي، كنوع من ردّ الفعل أمام إخفاقاتنا المتتالية، فنتجنب الحلم مخافة الإخفاق؛ لأنّنا شعوب عاطفية تتأثر بمفعول الكلمات، تعي أنّها منذ عقود لا تسير؛ بل تقف على قارعة الطريق، لم تعد تخطط لغد أفضل، بل تعيش فقط، وكل من يحاول أن يسير يخاف ألّا يصل، فتتوجه كل أصابع الاتهام بالإخفاق نحوه، فيرتكن للعادة مفضلاً ألّا يسير.

تجلّي الشروط الموضوعية لتحقيق الإنجاز

كان الأمر يوحي بأنّنا نعاني من قصور ذاتي في قدراتنا عن الفعل، وهو عجز متأصل فينا، أصبح مع الوقت الأصل والمرجع، أمّا الإنجاز فهو مجرد انحراف/ انجراف، لا يُعوّل عليه، ولا يُبنى على أساسه أيّ أفق مستقبلي، وعليه قد يعبّر الإنجاز عن طفرة، أكثر من كونه إنجازاً ناتجاً عن تراكم لفعالية واقعية؛ هيأت وفق شروط وأسباب أمر تحققه، وهو أمر نعبّر عنه حتى في خطاباتنا بعد الإنجاز الكروي، فنسمّيه حدثاً غير متوقع. لم نتوقعه؛ لأنّنا لم ندرجه ضمن أحلامنا الممكنة، ولم نسطره كأفق قابل للانتظار؛ لأنّنا طبعنا مع عجزنا و قصورنا، وبالتالي اندهشنا أمام تجلي إحدى ممكناتنا، التي غيبناها خوفاً من الإخفاق، وهرباً من تراكم المزيد من النكبات. هل هو فعلاً حدث لا متوقع؟ هل غابت شروط نشأته، ومثّل طفرة لا تعبّر عمّا نحن عليه؟

يعبّر مفهوم الحدث اللّا متوقع والمتفرد في أذهاننا عن نوع من الاستقلالية، تجعله لا يرتبط بأسباب أو شروط هيأت أو ساهمت في ظهوره، في حين هو حدث غير متوقع؛ لأنّنا لم نؤمن بإمكانه، طفرته في تغييبه من سجل أحلامنا، من أفق انتظارنا، صرنا مطبعين مع عجزنا لدرجة لم نعد نحلم، وخلقنا حميمية استئناسية مع العجز، حتى صارت عقليتنا موغلة في التنقيص من الذات، واقتناص أيّ مناسبة لجلدها، لترتكن إلى اللّا فعل.

قد يكون النقد الذي نمارسه إزاء ذواتنا ليس نقداً بقدر ما يعبّر عن جلد وانتقام ذاتي، كنوع من ردّ الفعل أمام إخفاقاتنا المتتالية، فنتجنب الحلم مخافة الإخفاق؛ لأنّنا شعوب عاطفية تتأثر بمفعول الكلمات

إنّ كأس العالم، في نسخته القطرية /المغربية، أعلى راية الإمكان لشعوب الهامش، فالقدرة على الانفلات من الاعتيادية، ورسم الحدث القادر على تسطير تاريخ كروي؛ سيكون نموذجاً لخلق عدوى في نسج إمكانات أخرى تتعدى المجال الكروي، لم نؤمن بها قبلاً.

لنقل، إذن، إنّنا قادرون، وإنّ الحدث الكروي عمل على تجلّي قدراتنا وإمكاناتنا، ولم يرسم إعجازاً أو حدثاً شاذاً؛ بل عكس واقعاً وإمكاناً كان مضمراً، كان عليه الكثير من غبار الخوف من الإخفاق، وتجلّى وفق الإيمان بإمكانية حدوثه، ولا يعبّر الحلم في النهاية عن مطلب طوباوي؛ بل عن إمكان واقعي قابل للتحقق، فدعونا نحلم ونحاول، أسمعونا فقط "سِر، سِر، سِر".




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية