احتكار العقيدة والوطن في الخطاب الإخواني

احتكار العقيدة والوطن في الخطاب الإخواني

احتكار العقيدة والوطن في الخطاب الإخواني


15/06/2024

قراءة في ''مقالات'' راشد الغنوشي

يَعتبرُ الغنوشي في مقالاته المنشورة في مجلة ''المعرفة'' بين عامي 1973 و1982، والتي أعيد نشرها في كتاب عام 1984، أنَّ العنف المتعلّق بالحركات الإسلامية ليس سوى دعايةٍ تبثّها وسائل الإعلام الرّسمية قصد التّشويه والمغالطة، مشبّها ذلك بالسّحر، متسائلا: '' إلى متى تستمر وسائل الإعلام في تمثيل دور السّاحر؟''،  فنتوهّم للوهلة الأولى أن لا وجود لعنف أصلاً، ونتخيّل أن ما تبثّه وسائل الإعلام من حالات عنف منظّم ضد الدّولة ليس سوى سيناريوهات من وضع أجهزة النّظام الحاكم، وأنَّ ما تتناقله الصّحافة لا يخلو من التّهويل والكذب، غيرَ أنّ الواقع التّونسي كان يشهد عنفاً ميدانياً متعاظماً، اجتاح المؤسّسات التّربوية والتّعليمية التّونسية، في نهاية السّبعينيات وبداية الثّمانينيات من القرن الماضي وتمثّلَ في أعمال التّخريب والإحراق، ولم يترك ذلك للغنّوشي ذريعةً لإنكار حدوثه، رغم إصراره على التنصّل منه، فاختار أنْ يقلب التّصوّر القائل بتلازم الدّعوة إلى الإسلام الحركي مع الدّعوة الظّاهرة حيناً والمبطّنة حينا آخر، إلى انتهاج العنف مسلكاً وسبيلاً إلى السّلطة، فأقرّ بدايةً بوجود حالاتٍ من العنف ولكنّه اعتبر أنّ الاتّجاه الإسلامي بريء ممّا يُنسب إليه، وأنّه عنف عفويّ ''يغذّيه شعور الفتيان بالحيرة والقلق وغموض المستقبل''، وأنّ الإسلاميّين يعملون على مواجهة مظاهر الفوضى، ولولا تدخّلهم ''لما بقي شيء قابل للكسر أو للحرق ولم يكسر أو يحرق''، ليعود إلى اتّهام الدّولة ممّثلة بالنّظام الحاكم، ومن ورائها الاختيارات السّياسية التي تنتهجها في التّعامل مع الإسلام، ويعتبر من ثمّ أنّ العنف نتيجةٌ طبيعيةٌ تأتي على شكل ردود أفعال لشعوب محرومة ومستضعفة ضد قوى سياسية وصفها بالطّاغوتية والمتسلّطة، وقال عنها أنّها ''شراذم من المستكبرين الذين خافوا شعوبهم واستسلموا للأجانب''، وبالتالي يتحوّل موقف الغنوشي شيئاً فشيئاً مِن تبرير العنف والتنصّل منه إلى التشريع له وتبّني دوافعه، وحتّى الحثّ عليه، مِن أجل تحقيق ما يسمّيه ''أهداف الإسلام الرّسالي''.

الغنوشي يعتبر أنّ ''الإخواني'' ليس نموذجاً للمسلم الجيّد فحسب، بل هو نموذج للوطنيّ الحقيقي أيضاً

ويرى الغنوشي أنّ ابتعاد السّياسة والاقتصاد والثّقافة والتّعليم، وكلّ مجالات المجتمع الحيويّة، عن الإسلام، يرسّخ لدى الإسلاميّين ''شعورهم بالمسؤولية الربّانية''، تلك المسؤولية التي تتبنّى العنف في سياق تحقيق أهداف الجماعة، ولعلّ أُولى تلك الأهداف احتكار الدّين والعقيدة، وكفّ يد الدّولة عن الفعل في كل ما هو ديني تمهيداً لكفّ يدها نهائيّا عن الفعل في كلّ ما هو سياسي، وبالتّالي تحقيق ما يسمّيه ''تحرير البلاد الفعلي'' من قبضة النّظام الحاكم وإعادتها إلى طريق الإسلام، ولا تبدو ضمانةُ تلك العودةِ إلى الإسلام، في نظر الغنوشي، منوطة بالدستور و النّصوص القانونية الوضعية، مهما أبدت الدّولة استعدادها للتّماهي مع الإسلام، لأنّ الدّستور بالنّسبة إليه لا يعدو أنْ يكون سوى إعلانٍ لسدّ الذّرائع، فهو يعتبرُ أنّ أغلب البلاد الإسلامية تُحلّي دساتيرها بالإسلام، ولكنّها لا تُلقي بالاً إلى الإسلام وأحكامه عند الشروع في سَنّ القوانين واللوائح التي تنظّم سير العمل في مؤسسات الدّولة، ويحتجّ الغنوشي ببيوت الدّعارة والخمّارات ودور القمار والمعاملات الرّبوية وعروض الرقص والتعري، ويستهجن أنّ تنظّمها الدولة التّونسية وتحمي وجودها رغم أنّ دستورها ينصّ على أنّ الإسلام دين الدّولة، ولعلّ تركيز خطاب الغنوشي على تلك المظاهر الجزئية في المجتمع التونسي، يهيّئ لديه المساحة الضّرورية لإقناع الفئات الناشئة، وبالتالي السّيطرة عليها وتوجيهها نحو انتهاج أساليب العنف المنظّم بناءً على رفض المشهد الاجتماعي السّائد، ومحاولة تغييره إلى مشهد إسلاموي مأمول تعبّر فيه الجماعة عن احتكار العقيدة والسّياسة معاً بدوافع أخلاقوية وانفعاليّه، انطلاقاً من اعتبار أنَّ ''السياسة جزء من برنامج الإسلام الشامل في توجيه الحياة''، وأنّ ذلك يستوجب إعلان المواجهة مع الدّولة من أجل أنْ يتحقّق. لذلك كانت أحداث العنف المتنامية التي مارسها الإسلاميّون ضدّ الدّولة ومؤسّساتها في إطار تنظيميّ ممنهج، يعتمد على الإعداد المسبق بعيداً عن العفويّة، كما يعتمد على المناشير والتوجيهات الحركيّة وإنتاج خلايا تنظيميّة فاعلة، وتحديد الفئات المستهدفة من كل تحرّك، فكان الطلاّب في الجامعات والتّلاميذ في المعاهد الثّانوية، أهدافاً واضحة وسهلة بالنسبة إليهم.

يرى الغنوشي أنّ العنف نتيجةٌ طبيعيةٌ تأتي على شكل ردود أفعال لشعوب محرومة ومستضعفة ضد قوى سياسية وصفها بالطّاغوتية والمتسلّطة

إنّ الدّولة، في خطاب الغنوشي، هي ''الطّاغوت'' الذي يجب التفوّق عليه والمكر فوق مكره، ولا يكون ذلك إلا بالعمل على تكريس فكرة التنظيم ضمن مفهوم الإسلام الشامل، على الشكل الذي قامَ به حسن البنا في مصر، ولم يُخفِ الغنوشي، في ذلك الوقت، إعجابَه الشديد بحسن البنا، بل إنّه أرجع إليه الفضل في أنّه هو الذي طوّر فكرة التّنظيم ليكون أداة سياسيّة وحضاريّة عامّة، وأنّه أدخل على مفهوم الجماعة تراتباً سياسياً جعلها قوّة إيديولوجية قادرةً على احتكار الإسلام و''تركيع الدولة''، معتبراً أن ''الأيديولوجية الوحيدة القادرة على قيادة الشّعوب المحرومة والمستضعفة إنّما هي الأيديولوجية الإسلامية الشجاعة التي تتصدى للطواغيت''، وذلك في إشارة واضحة إلى الأيديولوجيات الأخرى الموجودة في البلاد ثقافياً وسياسياً، ونقصد تحديداً الإيديولوجيا اليسارية، التي لئن كانتْ في موقع معارضة للنظام الحاكم، ولبرامج الدّولة وتوجّهاتها الليبرالية، فإنّها لم تسْلَمْ من اتّهامات الغنوشي، فكان يُحمّلها المسؤولية عن مظاهر العنف والفوضى في المجتمع. فبعد أنْ استوفى سيل اتهاماته للدولة والنظام الحاكم، توجّه إلى خصمه الإيديولوجي الأوّل، على الساحة التونسية، معتبراً أنّ مظاهر العنف والفوضى والتخريب من صنع ''بعض الحاقدين ممن لا أخلاق لهم'' في إشارة إلى فصائل اليسار المعارض للسّلطة، وقد صوّر الصّراع مع اليسار على أنّه نتاج دوافع ''الغيرة والحسد والخوف من تنامي الاتّجاه الإسلامي'' موحياً في مواضع كثيرة أنّ عداء اليسار عداء إيديولوحي يتجاوز الإسلاميين في أشخاصهم أو تنظيماتهم إلى العداء المباشر للدّين في حد ذاته، مستحضراً في ذلك مظاهر الصّراع الطلاّبي في ساحات الجامعة التّونسية في ذلك الوقت. ولعلّ ذلك من مكائد الخطاب الإسلامَوي عموماً، فليس غريباً على الإسلاميين إخراج خصومهم من دائرة الإسلام تمهيداً لرميهم بالزندقة والفسوق والكفر، وإباحة دمائهم، ولئن كان ذلك يجعلهم في نظر "الإخوان المسلمين" دون صفة الانتماء إلى الدّين ماداموا يرفضون الانتماء إلى الإسلام السّياسي ولا يقولون بمقولاته، فإنّ الغنّوشي يزيد في ذلك فيخرجهم من دائرة المواطنة، لعدم استجابتهم لشروط العقيدة، وكأنّ المواطنة تمرّ وجوباً عبر الانتماء إلى الإسلام السّياسي.

ليس غريباً على الإسلاميين إخراج خصومهم من دائرة الإسلام تمهيداً لرميهم بالزندقة والفسوق والكفر، وإباحة دمائهم

قد يبدو الأمر غريباً شيئاً ما أنْ يخلط الخطاب الإسلاموي بين أمرين لا جامع بينهما لا نظرياًّ ولا عملياًّ، وهما المواطنة والإسلام، أو الوطن والعقيدة، ولكنّ راشد الغنوشي يطلع على قُرّائه بهذا التمييز الإقصائي، فحتّى يؤكّد وطنيّة الإسلاميين كان لا بد عليه أنْ يلغي وطنيّة الآخرين، أولئك الذين يختلفون عنه إيديولوجيّاً، وكأن الوطنيّة صفة جُعلت لموصوف واحد فلا تجوز لغيره، أو أنّ الوطن حق حصري للإسلاميّين دون سواهم، لذلك فهو يعتبر أنّ ''الإخواني'' ليس نموذجا للمسلم الجيّد فحسب، بل هو نموذج للوطنيّ الحقيقي أيضاً، فهو، بحسب تعبيره، ''وطنيّ ولا أحد أَولى منه بهذه الصّفة لأنّه الامتداد الحقيقي لثقافة الوطن وأمجاده، وغيره ممّن لا يحملون دعوة الإسلام هم غرباء عن هذا الوطن ومن مخلّفات المستعمر...'' وبهذا يتجرّأ الغنوشي على المفاهيم دون دراية أو معرفة بالسّياقات الحديثة لفكرة الدّولة ومفهوم الانتماء إليها، وفكرة المواطنة وأساسيّاتها النّظرية، فيمارس بهلوانيّاته التنظيرية كما يفعل ''السّاحر'' متستّراً بالفراغ الذّهني والثّقافي والمعرفي لمريديه، كما تعوّد على التستّر بفراغهم الرّوحي لغسل أدمغتهم وحشوها بالمغالطات حول العقيدة، وهو لذلك تعمّد خبط المفاهيم بعضها ببعض لينتهي إلى رميها كلّها في سلّة واحدة، هي سلّة الإسلاميين. ولعلّ حجم المغالطة الذي ينطوي عليه هذا الخطاب الاستحواذي الإقصائي في آن واحد، يتعاظم حين نفكّك استراتيجية الغنّوشي في اتّجاه التجذير الإسلاموي في البيئة التّونسية، فهو يحاول أنْ يوهم القارئ بأن الإسلاميين هم الأقدم من حيث الانتماء إلى البلاد، ويختزل ذلك في الانتماء إلى الإسلام، وفي ذلك تلبيس ومغالطة، لأنّه يستحوذ أوّلاً على العقيدة ويستحوذ ثانياً على الوطن، وكلاهما دون وجه حق.

يمارس الغنوشي بهلوانيّاته التنظيرية كما يفعل ''السّاحر'' متستّراً بالفراغ الذّهني والثّقافي والمعرفي لمريديه

إنّ اللّجوء إلى إنكار أحداث العنف المنسوبة إلى الإسلاميّين أوّلاً، والمغالطة بالتنصّل من المسؤولية عنها في مرحلة لاحقة، ثم إلقاء التّهمة على الآخرين باقترافها، ونسج الدّوافع لذلك، هو أسلوب، كثيراً ما تلجأ إليه تنظيمات الإسلام السّياسي للمراوغة والتهرّب من المسؤولية، والظّهور بمظهر الضحيّة، وقد ساهم ذلك في إنتاج صورة نمطية للمنتمين إليها، تتكون ملامحها أساساً من فكرَتَي المظلومية والاضطهاد، ولتأكيد تلك الصّورة لم يغفل الغنوشي عن إظهار الإسلاميين بمظهر المتقبل للعنف الرّسمي، وعنف المعارضة اليسارية، وإظهار أنّهم لا يصارعون طرفاً واحداً وّإنّما أطرافاً عديدةً تحشرهم في الزّاوية وتنهال عليهم قمعاً، وقد استثمر الإسلاميون تلك الصّورة لاستعطاف فئات اجتماعيّة واسعة لاسيّما الفئات العمرية النّاشئة، وعملوا على استمالتها للانضمام إلى صفّهم ومن ثم الاشتغال على استقطابها وتفعيل انتمائها إلى الإسلام السّياسي، لينتهي بها الأمر إلى أنْ تكون عناصر مهيّأة للفعل في الواقع، بناءً على الاقتناع بأنّ مَن ليس من الإخوان فهو ليس مسلماً في المقام الأوّل وليس وطنيّا في المقام الثاني.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية