مسألة اليوم الثاني بعد الحرب!

مسألة اليوم الثاني بعد الحرب!

مسألة اليوم الثاني بعد الحرب!


28/11/2023

عبدالمجيد سويلم

تُحاول الولايات المتحدة الأميركية، ويُحاول «الغرب» كلّه من خلفها، ويُحاول بعض العرب، وبعض دول الإقليم، أيضاً، التركيز الشديد على اليوم الثاني، أو التالي لنهاية هذه الحرب، وباتجاه واحد ووحيد، وهو الوضع «السياسي» في قطاع غزة.

هذا التركيز ليس «لوجه الله» أبداً، وهو تركيز يُقصد به تجنّب الإجابة عن سؤال ذلك الثاني أو التالي على إسرائيل، علماً أنّ كلّ هؤلاء يعرفون، ويوقنون أنّ ذلك اليوم في إسرائيل سيكون «فاتحة» لأعمق الأزمات وأخطرها وأكبرها أثراً، ليس على الواقع الإسرائيلي فقط، وإنّما على مُجمل واقع الإقليم كلّه، بما في ذلك، وربما قبل ذلك على اليوم الذي سيلي نهاية الحرب على قطاع غزة.

قلنا في مقالٍ سابق إنّ مرحلة (ما بعد «حماس») هي مرحلة متخيّلة أكثر منها مرحلة محقّقة، وأنّها أقرب إلى التمنّيات منها إلى الوقائع، وأنّها ربما طموحات ومخطّطات ما زالت برسم الكثير من المعطيات الميدانية والسياسية التي لم يتمّ حسمها، هذا إذا لم نقل إنّها ما زالت أبعد ما تكون عن فرضها على الواقع في القطاع، وسيتمّ بالتأكيد معالجة هذه المسألة لاحقاً، وبأدقّ التفاصيل من قبل الكلّ الفلسطيني، وذلك بالنظر إلى أهمّيتها الخاصة.

والآن ماذا عن اليوم الثاني لنهاية هذه الحرب في إسرائيل؟

يُجمِع القاصي والدّاني، من حلفاء إسرائيل وداعميها ومؤيّديها، ومن خصومها وأعدائها على حدٍّ سواء على أنّ اليوم الثاني لنهاية هذه الحرب المجنونة سيكون حالة انقلابية على الصعيد السياسي وذلك في ضوء الوقائع الآتية.

أوّلاً، مهما ناور بنيامين نتنياهو، ومهما حاولوا في الحكومة، وفي «المجلس الحربي» أن يتجنّبوا وقف إطلاق نارٍ دائم فإنّهم حتى ولو شنُّوا هجوماً «قاتلاً» قبل هذا التوقُّف، فإنّهم لن يتمكّنوا أبداً من ادّعاء النصر، خصوصاً وأنّ الدعم لاستمرار الحرب بالطريقة الهمجية قد فقد «بريقه»، وانتهى الآن إلى البحث عن «ضربات» مركّزة ومدمّرة لمرحلة ما بين الهُدَن، ولن يتمكّن نتنياهو من الاستمرار بهذه المعارك إذا لم يحقّق ما يمكن أن يقدّمه للمجتمع الإسرائيلي، وأغلب الظنّ أنّه لن يتمكّن، وهو ما يعني أنّ «يوم الحساب» يقترب يوماً بعد يوم حتى لو استطاع نتنياهو تحقيق بعض الإنجازات الجزئية.

ثانياً، إذا أصرّ نتنياهو على الاستمرار بالحرب، والانتقال إلى مراحل أكبر وأخطر ــ مهما كان شكلها ــ على عكس الرغبة الأميركية والأوروبية، وربما العربية والإقليمية فإنّ انسحاب بيني غانتس يصبح مؤكّداً، وانسحاب «آخرين» سيؤدّي إلى أزمة سياسية يتحوّل عنوانها إلى إسقاط «حكومة الائتلاف» الحاكم، وتتحوّل مسألة إنهاء الحرب إلى مسألة أولى على جدول الأعمال، وفي هذه الحالة ليس أمام الإدارة الإسرائيلية سوى الانتخابات أو تشكيل حكومة جديدة مع «المعارضة» وبشروطها، وهو ما سيؤدّي بقوى «اليمين الجديد» للنزول إلى الشارع أو «التمرّد» على هذه الحكومة، أو خلط الأوراق بوساطة عمليات من القتل والإبادة والتنكيل في الضفة وفي «الداخل»، وقد يصل الأمر إلى عمليات كبيرة من التهجير في بعض المناطق.

وليس مستبعداً في هذه الحالة أن «ينتفض» المستوطنون لفرض «وقائع جديدة» بما لا يخطر على بال أحد.

إسقاط «الائتلاف» لن يؤدّي إلى انتخابات جديدة في إسرائيل لأنّ حزب الليكود فقد نصف مقاعده، و»اليمين الفاشي» أصبح يراوح بين الاندثار وبين التمثيل الرمزي، والأحزاب الدينية ستنتظر «المنتصر» لإجراء حساباتها المعهودة!

ثالثاً، لن تكون الدعوة لإنهاء الحرب بعد التخلّص من نتنياهو مجرّد الخوف من تبعات هذه الحرب من دون غطاء دولي، ومن دون سندٍ «جماهيري» وبمعارضة من دول الإقليم العربي، وإنّما، وقبل كلّ شيء لأنّ استمرار الحرب يصبح مصلحة خاصة ومباشرة لـ»الائتلاف الحاكم»، ولن تنطوي هذه الحرب على أيّ مكاسب لـ»المعارضة»، ولن تحقّق شيئاً لا لـ»المعارضة»، ولا لإسرائيل طالما أنّ الهدف منها هو «تفادي» هذا «الائتلاف» للكارثة المحدقة به لا محالة.

رابعاً، الانسجام بين الولايات المتحدة و»الغرب» من جهة، وبين الحكومة القادمة في إسرائيل أصبح أكثر ضرورةً من أيّ وقتٍ مضى، لأنّ أميركا و»الغرب» باتا على قناعةٍ تامّة بأنّه يستحيل «استقرار» الإقليم بمعزلٍ عن «عملية سياسية» جديدة، لم تعد مجرّد خديعة جديدة، ولن تكون «مناورة» مؤقّتة، وذلك لأنّ المطلوب لم يعد «إلهاء» السلطة الوطنية الفلسطينية بوعودٍ هنا وهناك، [وهي وعود لم يتحقّق منها ولا وعد واحد حتى الآن]، وإنّما بات المطلوب أن تكون هذه العملية جزءاً من استراتيجية أكبر، وهي إعادة ترتيب الإقليم الشرق أوسطي الذي عادت إليه أميركا بقوّة أكبر، وأصبحت تراهن عليه، وعليه وحده في استعادة الهيبة والدور، بعد أن فقدت هذه الهيبة والدور في صراعها مع روسيا في أوكرانيا، وبعد أن تأكّدت لها استحالة وقف صعود دور الصين عالمياً.

أقصد أنّ الولايات المتحدة و»الغرب» لم يعد أمامهم سوى هذا الإقليم بالذات ليثبتوا من خلال الهيمنة عليه، وإعادة ترتيب أوراقه بأنّهم ما زالوا قادرين على «وقف» صعود الشرق، وعلى منع تمدّده، وعلى درء أخطار «تقاسمه» مع «الغرب» إذا ما فقدت الولايات المتحدة القدرة على التحكُّم بمقدّراته.

ولذلك كلّه فإنّ الولايات المتحدة لا تستطيع المغامرة أكثر ببقاء نتنياهو ومجموعته في سدّة الحكم، ولا تستطيع الارتهان للمصالح الخاصة للائتلاف الحاكم حتى الآن على حساب المصالح الكبرى للولايات المتحدة، ولـ»الغرب»، ولفئات كثيرة في المجتمع الإسرائيلي نفسه.

وهذا يعني أنّ الحكومة، أو الائتلاف الحاكم الجديد بات مطالباً من وجهة النظر الأميركية و»الغربية»، وربما الإقليمية، أيضاً، بأن يدخل في صُلب عملية سياسية لم يعد بالإمكان أن تبقى في دائرة إعادة إدارة الصراع، بعد أن انتهت عملية «حسم الصراع» إلى الفشل التام مع سقوط أو بداية سقوط الحامل السياسي الرئيس لهذه الاستراتيجية.

خامساً، أيّاً تكن نتائج هذه الحرب، وأيّاً تكن القوى التي ستتولّى سدّة الحكم في إسرائيل فإنّ هذه الحرب قد فرضت ثلاث حقائق لن يستطيع أحدٌ في إسرائيل أن يتهرّب منها:

1ـــ إسرائيل لديها مشكلة أو أزمة بين الدين والدولة، وبين اليهودية والإسرائيلية، وكلّ هويّتها في خطر، ونظامها السياسي من حيث طبيعته ومحتواه في مرحلةٍ سائلة وغير مستقرّة، ولديها الآن حقائق جديدة لم تعد قادرة على التعايش معها دون حسمٍ وحلّ «جذري».

2ـــ لم يعد ممكناً أن يتمّ هذا «الحلّ» بمعزلٍ عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأصبح حلّ هذا الصراع بالذات هو الممرّ الإجباري لأيّ حلٍّ للأزمة التي كانت تبدو وكأنّها معزولة عن هذا الصراع.

3ـــ أثبتت هذه الحرب، وبصرف النظر عن نتائجها المباشرة المؤقّتة أنّ «استقلال» إسرائيل أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة الثابتة، وأنّ قرار دولة الاحتلال موجود خارج «الجغرافيا» الإسرائيلية، وأنّ دولة الاحتلال، أيضاً، باتت رهينة لقرار «الغرب»، وأنّ أحداً لا يملك «شجاعة» معارضة «الغرب» بعد الآن إلّا إذا فقد عقله بالكامل، وأنّ هذا «الغرب» سيُرغم إسرائيل على مواقف جديدة ليست معتادة، وإسرائيل ليست جاهزة لها، وهو ما يعني أنّ حالةً من الفوضى ستسود فيها قبل أن تتمكّن الولايات المتحدة، وعلى جناح السرعة من إعادة «ضبطها» من جديد.

وهكذا يتبيّن لنا أنّ سؤال اليوم التالي لانتهاء الحرب هو أثقل على إسرائيل بأضعاف مضاعفة من ثقله على فلسطين، وعلى قطاع غزّة.

بات الحملُ ثقيلاً على بايدن، وعلى إدارته كلّها، وهو حملٌ ثقيل على أيّ إدارة قادمة، وأظنّه أثقل ممّا كان يتوقّعه بايدن.

أمّا في دولة الاحتلال فإنّ الوضع كابوسي على كلّ حال، خصوصاً بعد أن تتبخّر مرحلة «شهوة الانتقام» وتبدأ الحسابات الحقيقية، وتنفجر الأزمات الأصلية، وتتوارى إلى الخلف مرحلة التخيُّلات الافتراضية التي رسمها الإعلام الإسرائيلي لجمهور متعطّش للثأر، ومتعطّش للانتقام بصرف النظر عن التبعات والنتائج.

عن "الأيام"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية