السودان وحكم "الإخوان"... العنف الداخلي وانعكاساته الخارجية (4-6)

السودان وحكم "الإخوان"... العنف الداخلي وانعكاساته الخارجية (4-6)

السودان وحكم "الإخوان"... العنف الداخلي وانعكاساته الخارجية (4-6)


18/04/2024

حامد الكناني

شهدت العاصمة السودانية الخرطوم نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي، عدة حوادث عنيفة هزت المجتمع السوداني وزادت من تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتدهورة أصلاً بسبب الحرب الأهلية في الجنوب، كما عرضت هذه الحوادث العلاقات الخارجية السودانية مع الدول الغربية للتراجع وكبدتها أضراراً سياسية جسيمة.

في وقت متزامن في 15 مايو (أيار) 1988 هاجم فدائيون فلسطينيون من ‏‏"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" (جماعة أبو نضال)‏‏، فندق أكروبول والنادي السوداني في الخرطوم، وأعلنت الشرطة حينها أن غربيين كانوا أهدافاً على ما يبدو لهجمات متزامنة بالقنابل اليدوية والرشاشات على فندق مزدحم وناد حصري يرتاده البريطانيون مما أسفر عن مقتل 7 أشخاص على الأقل وإصابة 21 آخرين.‏

وقالت مصادر أخرى إن فلسطينيين اقتحما النادي السوداني وهما يرتديان جلابيب سودانية، ويحملان بندقية كلاشينكوف ومسدساً وعدداً من القنابل اليديوية وأخذا يطلقان النار عشوائياً ويلقيان القنابل اليدوية من دون تركيز مما أدى لمقتل عامل سوداني كان يعمل بالنادي.

وتوجه فلسطيني ثالث نحو صالة استقبال فندق أكروبول، وهو يرتدي جلابية سودانية أيضاً ويحمل في يده حقيبة بداخلها عبوة ناسفة يبرز من أحد جوانبها مضرب للتنس في محاولة ناجحة للتمويه. وصعد مباشرة إلى مطعم الفندق بالدور الثاني وألقى الحقيبة في منتصف الصالة مما أدى لحدوث انفجار شديد قتل فيه إبراهيم عبدالحميد محمد وهو ضابط عسكري سوداني رفيع المستوى وأسرة بريطانية مكونة من أربعة أفراد وهم الموظفان كريس وكلير رولف وطفليهما اللذين تتراوح أعمارهما بين 1 و 3 سنوات. ‏ومن بين القتلى امرأة "أوروبية" متزوجة من مواطن سوداني.‏ وكان الجرحى من الجنسيات الأميركية والهولندية والكندية والسويدية وبريطانيين.

اخذت مراحل محاكمة المتهمين الفلسطينيين والتحقيق معهم فترة زمنية طويلة وكانت الحكومة السودانية في حيرة من أمرها، فمن جانب حاولت قيادة "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" الضغط على حكومة الخرطوم من أجل إطلاق سراح منتسبيها الخمسة أو تخفيف الحكم ضدهم، ومن جانب آخر مارست الحكومة البريطانية وكذلك ذوي الضحايا من الغربيين ضغوطاً على السودان من أجل صدور أحكام رادعة وشديدة، لكن أسرة الضحايا في بريطانيا رفضت حكم القصاص أو الإعدام للمتهم.

قصاص أو دية

تشير البرقية السرية المرسلة من قبل السفارة البريطانية في الخرطوم في 27 فبراير (شباط) 1990 إلى مرجعيتها في لندن أن رئيس القضاء الأعلى في السودان (جلال علي لطفي) يخبر السفارة الأميركية أنه لا المحكمة ولا الحكومة قد اتخذت قراراً بشأن مصير المدانين حتى ذلك الوقت.‏ ويشكك محرر البرقية في نوايا رئيس القضاء معتقداً أن الرواية قد تكون محاولة متعمدة لشرح بطء العملية القانونية في السودان. جاء في البرقية ما نصه:

"‏وقد أعطاني زميلي في الولايات المتحدة نسخة سرية من ملاحظات أدلى بها رئيس المحكمة العليا السودانية لطفي (محامي الدفاع السابق عن مفجري أكروبول) لموظفيه في 20 فبراير (سيقوم لطفي بزيارة إلى الولايات المتحدة على نفقة السفارة الأميركية هنا).‏

‏وقال لطفي إنه لا المحكمة ولا الحكومة اتخذتا قراراً بشأن مصير الإرهابيين المدانين. وادعى أنه فهم أن حكومة السودان لا تزال تماطل، وإنها لم تكن في عجلة من أمرها في الحصول على آراء عائلة روكيت قائلاً إن القضية معقدة بسبب خلل في قانون الجزاء، الذي ينص على عدم وجود خيار سوى القصاص أو دفع الدية. وقال إن أحكام المحاكم السودانية منقسمة بشأن ما إذا كان يمكن إصدار أحكام عقوبات بالسجن عن الإساءة للمجتمع في مثل هذه الحالات. وأعرب عن اعتقاده بأن وزن السلطة سيدعم مثل هذا التفسير ولكن المحكمة العليا لم تبت بعد في هذه النقطة.‏

حكم سياسي

وقال لطفي أيضاً إن حكومة السودان تعرضت لضغوط من مصادر فلسطينية. وقبل نحو شهر، جاء العديد من "أصدقاء" الفدائيين الفلسطينيين إلى الخرطوم من ليبيا عارضين مبالغ كبيرة من المال لإطلاق سراحهم. وكان قد التقى بزوار مجهولي الهوية في غرفته. كانوا مهذبين ويحيط بهم أفراد الأمن السودانيون. بعد أن شرحوا مهمتهم، أجاب بأن طلبهم يجب أن يبقى‏ يخضع للقرار الذي لا يزال قيد المراجعة، ويجب منح تعويض أسر الضحايا.‏

‏وأكد لطفي أن الحل النهائي للقضية، على رغم أنه يقع رسمياً على عاتق القضاء، سيكون في نهاية المطاف حكماً سياسياً. وأضاف أنه للأسف، لا توجد خيارات سياسية جيدة للحكومة: فالشنق تعارضه أسر الضحايا وسيؤدي إلى انتقام الفلسطينيين المتطرفين. ومن شأن الحكم بالسجن أن يولد ضغوطاً لا هوادة فيها من أجل العفو، ويؤدي إلى هجمات محتملة على السودانيين، وربما يستهدف السجون. من ناحية أخرى الإفراج عن المتهمين يقوض العدالة ويمنع معاقبة المجرمين كما يثير غضب المجتمع الدولي".

بعد تحرك الجهات الفلسطينية لكسب رضى أسر الضحايا مقابل دفع الدية (التعويض المالي) يبدو أنهم سعوا للوصول إلى ذوي الضحايا من البريطانيين وهو الأمر الذي أثار فزع الحكومة البريطانية وقلقها من عواقب معرفة عناوين ذوي الضحايا للجهات الفلسطينية. لذا أرسلت وزارة الخارجية البريطانية برقية قصيرة في 12 يناير (كانون الثاني) 1990 تحذر سفيرها وتوصيه بمنع تواصل الجهات مع أسر الضحايا.

"لقد فزعنا من فكرة أن الجهات الفلسطينية قد تسعى إلى إقناع العائلات البريطانية بقبول الدية (التعويض). ومن الممكن أن تؤدي مثل هذه الأساليب إلى الترهيب والتهديد. سأكون ممتناً لو تحدثت إلى السلطات السودانية، موضحاً أن أقارب الضحايا البريطانيين قد أبدوا إفاداتهم بشأن الحكم وطلبوا ضمانات بعدم الكشف عن عناوينهم. لقد قمنا بتنبيه العائلات".

بطء إجراءات

‏"... لقد أخبرني مستشاري القانوني هذا الصباح 27 فبراير أن أحد أعضاء محكمة الاستئناف قد أخبره بأنه غير قادر على التحدث إلى رئيس المحكمة بسبب أن المحكمة لم تتلق إفادات من أسر الضحايا في المملكة المتحدة.‏

‏نحن نعلم من المراسلات السابقة لوزارة الخارجية أن الأوراق قد وصلت إليهم، وفي الواقع أنه في ذلك الوقت أخبرت وزارة الخارجية أن الأوراق قد تم تمريرها إلى مكتب المدعي العام. ويبدو أيضاً من تعليقات مستشارنا القانوني على جلسة الاستماع المعقودة في 3 يناير أن بعض الوثائق على الأقل قد وصلت بالفعل إلى مكتب المدعي العام.‏ يجب أن نشك في هذا التعلل.‏

سنتصل برئيس الإدارة القانونية بوزارة الخارجية في وقت لاحق من اليوم لمعرفة الموقف النهائي. ولكن يتعين علينا أن ندرس بعناية حجم الضغوط التي نحتاجها لدفع السودانيين إلى تحريك العملية القانونية إلى الأمام بكل سرعة ودقة. لقد أوضحنا حتى الآن أهمية التوصل إلى نتيجة عادلة ومقبولة، أي الأحكام الجزائية. لكننا لم نسلط الضوء على السرعة في هذه العملية. قد يكون نفوذنا في هذه الحالة محدوداً على أي حال. ومن ناحية أخرى، كلما سمح باستمرار الأمور لفترة أطول، زاد خطر حدوث بعض التأثير وممارسة الضغوط خارج نطاق القضاء. شكراً جزيلاً على التعليمات الأساسية...".

السفارة البريطانية في الخرطوم تخبر مرجعيتها في لندن بتاريخ 4 مارس (آذار) 1990عن تأجيل جلسة المحاكمة بسبب غياب المدعي العام وكذلك المتهم وعدم تمثيل أسرة الضابط السوداني الذي قتل في تفجير الفندق. جاء في البرقية ما نصه:

‏"باستثناء رئيس وأعضاء محكمة الاستئناف (اثنين)، كان المشاركون في الجلسة يتألفون فقط من محامي المتهم وممثل عن عائلة النادي السوداني الذي قتل في الهجوم. وأحاط الرئيس علماً بغياب المدعي العام. وأوضح ضابط الشرطة للرئيس أن المدعي العام مريض. ويقول المستشار القانوني أيضاً أنه لم يكن هناك من يمثل عائلة ضابط الجيش السوداني الذي قتل في الهجوم.‏ وأعلنت المحكمة أنها لم تتسلم الوثائق المتعلقة بالقضية ثم قرر الرئيس أن تنعقد جلسة موقتة لمحكمة الاستئناف في 21 مارس لضمان توافر جميع الوثائق وجميع الأطراف المعنية للمحكمة. وتحدد المحكمة بعد ذلك موعداً لجلسة يدعى إليها المتهم وتتخذ فيها المحكمة أي قرار تراه مناسباً.‏

‏يقول مستشاري القانوني إنه لم يتم توضيح عن الوثائق التي لم تصل إلى المحكمة: إنه يعتقد أن هذه تشمل بعض وربما جميع الإفادات من عوائل الضحايا البريطانيين وربما أيضاً إفادات من أسر الضحايا السودانيين: انطباعه هو أن المفاوضات بخصوص الدية أو عقوبة الإعدام لم تكتمل بعد.‏

‏من الواضح أن القرار بضمان أن تكون جلسة الاستماع ذات طابع إجرائي لا موضوعي قد اتخذ مسبقاً، كما يتضح من غياب المتهم عن المحكمة. في ظاهر الأمر، تبدو هذه التحركات الأخيرة أداة إجرائية لمزيد من التأخير".‏

موقف العائلات البريطانية

"حدد القاضي يوم 22 أكتوبر (تشرين الأول) موعداً للجلسة التالية التي سيتم فيها سماع الحكم. ولم يتم ذكر موقف العائلات البريطانية. وفي حديثه للصحافيين بعد ذلك، قال ممثل المدعي العام إن تفضيلاتهم المعلنة هي عقوبة السجن ويمكن أن تؤخذ في الاعتبار عند النظر في خيار العقوبة. وقال إنه إذا كان حكم القاضي لمصلحة الدية فإن مكتب النائب العام كعضو سيطلب التعزير بالطبع.

ومن الواضح أن القاضي كان عازماً على وضع حد للتأخيرات المستمرة، لكن الخلاف بين شقيق عامل النادي السوداني ومحاميه ربما أدى إلى مزيد من الارتباك في الإجراءات. ومن حيث المبدأ، لا يزال أمام الجانبين الوقت للاتفاق على التعويضات قبل 22 أكتوبر. وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، فيمكن للقاضي أن يقرر المبلغ القانوني للفدية الواجب دفعها، وهو 30 ألف جنيه سوداني، بحسب ممثل النائب العام. ومع ذلك، إذا كانت الأسر تطالب بتطبيق القصاص، فيجب إصدار حكم الإعدام. ومن الواضح أنه لا يزال هناك مجال لتفسيرات مختلفة للقانون ورغبات أسر الضحايا".

فندق أكروبول يعود لمواطن سوداني من أصول يونانية. ويعود تاريخ وجود اليونانيين في السودان لعهد استقلال السودان من الاستعمار البريطاني عام 1956. آنذاك تم منح شهادات الجنسية السودانية لآلاف المقيمين اليونانيين في البلاد. حين اندلع القتال بين ‏‏القوات المسلحة السودانية‏‏ ‏‏وقوات "الدعم السريع‏‏" شبه العسكرية للسيطرة على المركز السياسي للسودان في وسط الخرطوم كان فندق أكروبول في بؤرة القتال العنيف. بعد خمسة أيام من الحصار تم إجلاء مالك الفندق من قبل ‏‏القوات المسلحة الفرنسية‏‏ إلى ‏‏جيبوتي‏‏ حيث ذهب إلى أثينا.

كتبت "رويترز" في 28 أبريل (نيسان) عام 2023 عن مالك فندق أكروبول الخرطوم قائلة: "أبقى ثاناسيس باجولاتوس فندق أكروبول المملوك لعائلتة في الخرطوم مفتوحاً خلال كل الانقلابات والحروب والانتفاضات التي شهدتها السودان في الماضي، إلى أن أجبرته الحرب التي اجتاحت العاصمة في أبريل 2023 على الرحيل أخيراً. وقال الرجل اليوناني البالغ من العمر 79 سنة والمقيم الآن في منزله في أثينا بصوت حزين جداً: "يبدو الأمر كما لو أن جزءاً مني قد اقتطع". عمري 80 سنة تقريباً. لقد عشت هناك طوال حياتي، لذا فإن الخرطوم - أو السودان - جزء من حياتي".

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية