بين السياب وعمارة... علاقة حب أنهاها اختلاف الدين

 بين السياب وعمارة... علاقة حب أنهاها اختلاف الدين

بين السياب وعمارة... علاقة حب أنهاها اختلاف الدين


27/06/2023

أكثر العلاقات الاجتماعية بين المثقفين في العقود السابقة كانت تنسج من خلال لقاءات التعارف التي تشهدها المجالس الثقافية في بيوت أعمدة الثقافة والأدب في بلد ما. ودأب المثقفون العرب على استثمار منازلهم لتكون منتديات أو صالونات ثقافية تجمع مختلف النخب والشرائح الإبداعية المتنوعة. هذا ما كان شائعاً في الحواضر المعرفية، وتحديداً في بغداد والقاهرة وبيروت، على اعتبار أنّ العراق كان يقرأ ما تنتجه مصر في مطابع لبنان.

وما أكثر قصص الغرام التي انطلقت من الصالونات الأدبية، وكان أبطالها مثقفاً ومثقفة، أو عدة مثقفين أغرموا بمثقفة، كما هو الحال مع الأديبة الفلسطينية اللبنانية مي زيادة التي أغرم بها كل من: عباس محمود العقاد، والشيخ مصطفى عبدالرزاق، والشاعر ولي الدين يكن، لدى حضورهم صالونها الأدبي المعروف بـ"صالون مي زيادة"، لكنّ قلب الأخيرة مالَ إلى جبران خليل جبران، الذي أدام الحب معها عبر المراسلات فقط.

العلاقة الغرامية التي نقصدها هي من النوع الأول، أي غرام مثقف بمثقفة، ونعني بذلك الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، وزميلته الشاعرة لميعة عباس عمارة. فقد توطدت العلاقة الاجتماعية بينهما في صالون الأديب محمد شرارة في بغداد. إذ سبق للشاعرة الميسانية أن التقت بالشاعر البصري في معهد دار المعلمين العالية في العاصمة بغداد، حين كانا زميلي رحلة دراسية داخل المعهد، ومشوار ثقافي كان محوره الشعر. والجدير بالذكر أنّ السيّاب كان آنذاك يبشر بجنس شعريّ جديد، وهو قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر، في محاولة منه للخروج عن الشعر العمودي الذي سبق أن كتبه في بداياته بمحافظة البصرة (جنوب العراق).

بدايات العلاقة 

تؤرخ الكاتبة بلقيس شرارة (ابنة محمد شرارة) للعلاقة التي جمعت بدر شاكر السياب ولميعة عباس عمارة، ابتداءً من الأكاديمية مروراً بلقائهما بمنزلهم، حيث يأتي كلٌّ منهما إلى الصالون الثقافي الذي يقام يوماً من كلّ أسبوع في أربعينيات القرن الماضي، في منزل الأديب اللبناني المقيم في العراق محمد شرارة.

لميعة عباس عمارة في منفاها الامريكي

وعن تلك الأجواء تسرد شرارة في مقالة لها: "بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مرّ العراق بنهضة، إن كانت بالنسبة إلى الفن أو الأدب، وأصبح بيتنا في تلك الفترة منتدى وملتقى لكثير من الشعراء والأدباء والمفكرين، وكان يجمعهم في تلك اللقاءات حبهم للأدب والشعر، بالرغم من التباين والاختلاف في آرائهم السياسية. وكان محمد شرارة المضيّف والمشجع والراعي لتلك الندوة". وتتابع: "لقد اتخذت تلك اللقاءات طابعاً أسبوعياً، ولم نكن نعلم أنّ تلك اللقاءات كانت تمثل بداية (نشأة الشعر الحديث أو الشعر الحُر)، إذ كان الجدل يدور حول تجديد الشعر، وجعله حراً بلا قافية. وكان الشعراء يقرؤون آخر ما نظموه من قصائد، وأصبحت تلك اللقاءات الأسبوعية هي البذرة الأولى في تجديد الشعر".


ومن المثقفين الذين حضروا الصالون الثقافي ببغداد كان "الشاعر محمد مهدي الجواهري، والكاتب حسين مروة، ومحمد حسن الصوري، صاحب جريدة الحضارة، وحسن الأمين، وهو شاعر وأستاذ في (كلية الملكة عالية)، والكاتب كريم مروة، وجميعهم ما عدا الجواهري من اللبنانيين، وإلى جانبهم كان يتردد على الندوة الشعراء الشباب، مثل بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، ولميعة عباس عمارة، وبلند الحيدري، وأكرم الوتري، فضلاً عن أصدقاء محمد شرارة كناجي جواد الساعاتي، وعزيز أبو التمن، وهو ابن الزعيم الوطني جعفر أبو التمن".

وتضيف: "كان بدر شاكر السياب ولميعة عباس عمارة من المواظبين أسبوعياً على تلك اللقاءات، وكانا أول من يصلان إلى الدار. كانت تلك اللقاءات بالنسبة إلى بدر خاصة تجسيداً مكثفاً للحظات التي كان يعيشها مع لميعة، يحاول أن يسرقها قبل أن تفر من بين يديه. وقد نظم بدر بلميعة عدداً من قصائد الغزل في ديوانيه (أزهار ذابلة) و(أساطير)".

وفيما يتعلق بشخصية لميعة عباس عمارة في تلك الفترة: "كانت لميعة تجمع بين ذكاء الروح وجمال الجسد، طويلة القامة، نحيفة، ذات عينين جميلتين واسعتين سوداوين. وبالرغم من أنّها كانت ترتدي فستاناً أسود، كانت تتألق نضارة وحيوية وشباباً"، وتشير إلى أنّها "كانت محدّثة بارعة، نقيض الشاعر بدر السياب، ذات نكتة لاذعة، وعندما كانت تلقي قصيدة من قصائدها، فإنّها تتكلم بلغة الجسد، فتتغنج وتتمايل وتذوب مع الكلمات ومعانيها التي تصدر من بين شفتيها، فيرتفع صوتها تارة وينخفض تارة أخرى، فكانت تشرك كل حاسة من حواسها عند الإلقاء. وبذلك جمعت بشخصيتها العذبة وأسلوبها الجذّاب في قراءة الشعر سحراً كان يخيم على الحاضرين في تلك اللقاءات. كانت قصائد لميعة قصيرة ورقيقة في مضمونها، وكان الحب هو الموضوع الرئيس لتلك القصائد".
وفي عام 1946 بدأت العلاقة بين بدر ولميعة، بعد أن التقت به في الكليّة، وتقول لميعة: "بدأت العلاقة بيني وبين بدر عندما دخلتُ دار المعلمين في الصف الأول عام 1946، وكان بدر في الصف الثالث. كانت علاقة صداقة مثل باقي الزملاء يتحلقون حول بدر لسماع شعره. وأصبحنا أصدقاء أكثر في نهاية العام الدراسي، وأهداني كتاباً بعنوان (أشهر رسائل الحب) عن جوزفين بونابرت. حدقتُ بوجهه ورفضتُ أن أستلم الكتاب، فقال لي: هذا الكتاب عبارة عن قطعة أدبية رائعة. وقد تطورت العلاقة بيني وبينه بعد منتصف عام 1947 حتى 1948، حيث أصبح مدرساً في الرمادي، وكان يأتي كل يوم خميس إلى بغداد لزيارتي".

وكانت قصيدة "سوف أمضي" تعبيراً عن العاطفة بين بدر ولميعة، بدأها:

"سوف أمضي أسمع الريح تناديني بعيداً

في ظلام الغابة اللفّاء... والدرب الطويل

وردّت عليه لميعة:

ستمضي، فمن لي أن أمنعك؟

ستمضي، فهل لي أن أتبعك؟

فقلبي، وشِعري، وعُمري، سُدىً

إذ لم أمتّع بعيشي معك"
السياب يهجو حبيبته

لم تذكر المدونات الثقافية السبب الذي أدى إلى نهاية العلاقة العاطفية التي جمعت الشاعر بدر شاكر السياب والشاعرة لميعة عباس عمارة، إلا أنّ الترجيحات تذهب إلى أنّ رفض عمارة لطلب الزواج منها من قبل السياب. وهو ما دفع الأخير، وهو شخصية عاطفية دائمة الانفعال في الوسط الاجتماعي العام، إلى هجاء محبوبته التي رفضت الزواج منه. السيّاب الذي فقد والدته منذ طفولته، كان متيماً بحب المرأة، وخاصة المرأة التي بادلته عاطفة الحب، وكانت لميعة تختلف عن الفتيات اللواتي نظم فيهن بدر قصائده، فقد بادلته الحب، ولو اختلفت الآراء في هذا الشأن، فالبعض يعتقد أنّ الحب كان من طرف واحد، والبعض يعتقد أنّ الحب كان من الطرفين.

دار المعلمين العالية في بغداد، أربعينيات القرن الماضي

أصيب بدر بالخيبة، بعد أن رفضت لميعة (ابنة الصابئة المندائية) عرضه الزواج منها، لاختلاف دينهما، حيث لا تسمح تقاليد المجتمع به، فكتبَ شاعر الروح والحرمان قصيدة كردّ فعل:

"أساطير من حشرجات الزمان

نسيج اليد البالية

رواها ظلام من الهاوية

وغنّى بها ميتان

***

وهذا الغرام اللجوج

أيرتد من لمسة باردة

على إصبع من خيال الثلوج

وأسطورة بائدة.

***

وتجيبه لميعة:

أساطير نمّقها الخادعون

وأشباح موتى تجوبُ القرون

لتخنق أجمل أحلامنا"
وانقطعت العلاقة بينها وبين بدر، بعد أن تزوجت في نهاية 1951، فلم تلتقِ به إلا بعد أعوام، حين أقام الأديب صلاح نيازي حفلاً برئاسة الناقد الكبير علي جواد طاهر، في دار المعلمين العالية في 15/2/1956، فقرأتْ قصيدة "الزاوية الخالية". وقد فوجئتْ ببدر عندما صعد المنصة، وقرأ قصيدة حماسية وسياسية عن بور سعيد وعن عبد الناصر. أمّا قصيدة لميعة، فقد عبّرتْ فيها عن الفراغ الذي كانت تعاني منه، حياة رتيبة خالية من الابتكار والإبداع، حتى أنّها نسيت الكلام لهيمنة القضايا الآنية على حياتها:

"أحسّ كأنّي نسيتُ الكلام

نسيتُ وجودي، نسيتُ الألم

كماكنة دون ما غاية

تسيرُ، وما شعرت بالسأم

وكان فراغي امتلاء الخيال

فصار امتلاء حياتي عدم"

كانت لميعة عضواً في الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء، وقد ألقيَ القبض عليها في عام 1963، في الانقلاب الذي قام به القوميون والبعثيون بقيادة عبد السلام عارف ضد حكومة عبد الكريم قاسم، حيث ألقيَ القبض على عدد كبير من اليساريين والشيوعيين، وقد نظم بدر قصيدة لم تسلم فيها لميعة من الإشارات القاسية:

"وغيبّها ظلام السجن وتؤنس ليلها شمعة

فتذكرني وتبكي، غير أنّي لست أبكيها"

وكان عام 1964 قد شهد وفاة الشاعر بدر شاكر السياب؛ بسبب مرض عضال ألمّ به طويلاً، وبعد عقد ونيف تضطر الشاعر لميعة عباس عمارة إلى مغادرة العراق نهائياً، نتيجة إحكام حزب البعث قبضته على السلطة، وانعدام الحريات العامة ودخول البلد في مرحلة الحكم الديكتاتوري، لتقضي ما تبقى من حياتها في المنفى الأمريكي، إلى أن توفاها الله في حزيران (يونيو) 2021، عن عمر يناهز الـ 92 عاماً. 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية